“اللاوعي الجمعي ليس ناتجاً عن التجربة الشخصية، بل هو ميراث نفسي مشترك، يولد الإنسان وهو يحمله داخله”
– كارل يونغ
يرى عالم النفس الشهير كارل يونغ أننا كبشر محكومون بما أطلق عليه اللاوعي الجمعي وهو المخزون النفسي المشترك بين البشر المكون من رموز وأساطير متوارثة لا تنبع من التجربة الفردية بل تسكن الإنسان منذ ولادته، أي أن الإنسان في النهاية محصلة لتجارب وخبرات من سبقه.

من هنا من قلب هذه النظرية التي غيرت العالم يوماً، ينطلق مسلسل Pluribus الذي أعاد فينس غيليغان إلى عالم الشاشة الصغيرة بعد غياب، يحكي المسلسل قصة كارول ستوركا روائية كاسحة الشهرة تعيش حياة رتيبة مع هيلين مديرتها وحبيبتها، ويتمحور عالمها حول سلسلة رواياتها وحربها غير المعلنة مع الكحول.
ينقلب عالم كارول الرتيب انقلاباً صادماً عندما تجد أن كل من حولها من البشر ومن ضمنهم هيلين يتشنجون فجأة، تفقد هيلين حياتها فيما تجد كارول أن كل من حولها أصبحوا شخصاً واحداً مفعماً بسعادة مسالمة يحركه عقل واحد، والسبب فيروس قادم من غياهب الفضاء حول البشر إلى قطيع من الأغنام الناطقة، لكن كارول ومجموعة قليلة من المنحوسين الآخرين أظهروا مقاومة غير مفهومة تجاه العدوى ولا حل أمامهم سوى انتظار الفرج الذي سيضمهم إلى هذا النسيج الموحد سواء أرادوا أم لا، لقد كانت هذه اليوتوبيا جحيماً مطبقاً بالنسبة لكارول.
عنوان المسلسل نفسه مأخوذ من عبارة لاتينية هي E Pluribus Unum أي من كثيرين إلى واحد، اختيار ذكي ينقل روح العمل بأمانة، وكأول تجربة له في مجال الخيال العلمي فقد كان فينس غيليغان أمام تحد صعب، الحلقتان الأوليتان كانتا مذهلتين، فكرة العمل غير مطروقة من قبل وتبدو كأنها من عالم المسلسل الأيقوني The X File إنها حماسية ذكية تتناغم مع تساؤل فلسفي يطرح منذ اللحظات الأولى، هل فقدان التفرد والاستقلالية والتحول إلى جزء من كيان أكبر وسيلة مضمونة لتحقيق السعادة أم أنه اعتداء سافر على حرية الفرد؟
في عالم المسلسل تجد كارول نفسها ضد العالم حرفياً تحارب كي تحتفظ بحقها في أن تكون “أنا” لا “نحن” في أن يكون عقلها ملكاً لها وحدها، بأداء مميز من ريا سيهورن التي عرفناها وأحببناها يوماً في Better Call Saul ككيم ويكسلر ضمير سول اليقظ وانعكاس خطاياه.

كانت ريا مقنعة بدور كارول ونجحت في أن تحمل عبء المسلسل بأكمله على كاهلها، فالشخوص قليلة للغاية والحبكة تدور حول كارول وصراعها البيزنطي مع “الآخرين”، إنها آخر الصامدين، العزلة تقتلها ببطء، فاجعة خسارة حب حياتها لهيب يستعر في أعماقها، ويتزايد مع افتتانها غير المتوقع بزوشا الرابط الذي يجمعها بهم، شخصية كارول مضطربة مفككة تائهة تفعمها التناقضات وهو ما نجحت ريا في تجسيده بلا أي شك.
كارولينا ويدرا التي جسدت دور زوشا أبدعت في أن تكون كتلة جليدية بلا مشاعر مغلفة بالصمت، إنها فرد من القطيع بل هي تمثيل له صلة الوصل بين كارول والعالم الذي وحده عقل واحد، وجودها ينقل ذلك الشعور المقبض بالقلق الناتج عن تحول الجميع إلى زومبي معدومي الإرادة والفردية.
كاميرا غيليغان في الحلقتين الافتتاحيتين جزء من نسيج الحكاية، مساحات واسعة فارغة بشكل مرعب تتغلغل في قلب البوكيركي التي عاد لها غيليغان مجدداً، لكنها وفي Pluribus تخلو من تجار المخدرات، إنها فارغة وحيدة، صحراء قاحلة محكومة بالعدم، يحافظ مخرجو بقية الحلقات على هذا الجو المقلق ليتحول إلى هوية بصرية طبعت العمل بأكمله، الألوان تتمازج بين ألوان داكنة دافئة وأخرى باردة محايدة مقلقة تعكس تناقض العالمين، كارول الغارقة بيأس في مخاوف وتساؤلات بلا نهاية، والآخرين بسعادتهم اللا نهائية ورغبتهم المريبة في إسعاد كارول بأي شكل ممكن.
كانت القصة الخاصة بالعمل مبتكرة تختلف عن أي عمل من النوع نفسه، هذا ليس غزواً فضائياً عادياً إنما هو استعمار وانتهاك لفردية الجنس البشري بأسره، تجسيد حرفي لنظرية يونغ الخاصة بالوجدان الجمعي بمسحة ملائمة من الرعب الممتزج بالترقب الحذر، لا رعب يوازي رعب تلك الابتسامات الودودة بشكل مفرط والتي تعد كارول بسعادة غامرة فقط لو فقدت تفردها كي تكون جزءاً من المجموعة، إنهم جاهزون أبداً للخدمة، هذا رائع لكن ما المقابل؟!

لكن غيليغان وللأسف وقع في ثغرة لربما لم يحسب لها حساباً، العمل بأحداثه كان أبطأ بكثير من اللازم ويمكن القول أنه وفي محطات كثيرة تاه عن مساره الموعود وتخلل الملل والتمطيط أحداثه، الدراما البطيئة المتمهلة التي صنعت مجده ككاتب يوماً في Breaking Bad و Better Call Saul أضحت نقطة ضعف في Pluribus إذ أنه وعقب الانطلاقة الصاروخية في أول حلقتين أضاع المسلسل بوصلته وأغرقنا في أحداث لا تقدم أي قيمة حقيقية للعمل.
لقد أضاعت الكتابة حلقات ووقتاً كثيراً في نظريات بدت للوهلة الأولى مهمة وحماسية، اتضح بعدها أنها مجرد زوبعة في فنجان. كحقيقة أنه من الطبيعي أن يتحول الموتى إلى وليمة مغذية للآخرين!!
كان يمكن لهذه التفصيلة الخارجة من عوالم الدكتور هانيبال ليكتر أن تشكل محوراً سردياً قوياً لكن المسلسل وللأسف أهملها لصالح أحداث أخرى أقل أهمية.
لقد امتلك Pluribus إمكانيات مبشرة للغاية، قصة مبتكرة خلّاقة، فلسفة متينة، وطاقم تمثيل جيد رغم محدوديته، لكنه أضاع هذه الإمكانيات وأغرق نفسه وأغرقنا في قصص جانبية لا تقدم بل تؤخر تقادم الأحداث، فينس غيليغان كاتب استثنائي قطعاً لكن لن تسلم الجرة لو رميتها في الهواء حتى لو كنت كاتب أعظم عملين عرفهما العالم كله، يقولون أن لكل جواد كبوة فهل يكون Pluribus كبوة غيليغان؟ لا ندري حقاً فلربما لو استمر العمل لمواسم قادمة قد ينجح في سحرنا كما فعل عالم الميث يوماً.

Movie Critic
