يقول كاتب الرعب الشهير ستيفن كينغ: “أعظم الرعب ليس في الوحوش..بل في اللحظة التي يدرك فيها الطفل أن الكبار لا يستطيعون حمايته”.
من هذه الفلسفة ينطلق فيلم Weapons للوهلة الأولى قد تظن أنه فيلم حربي أو في أفضل الأحوال حكاية قاتل متسلسل، لكن Weapons هو فيلم إثارة وغموض ورعب صُنع كما ينبغي لأفلام الرعب أن تُصنع.

حكاية مريبة في بلدة صغيرة
تُروى الأحداث على لسان طفل، الأمر الذي لا يفشل في شدك إلى الأحداث منذ اللحظة الأولى، صوت الطفل يحكي قصة ألّمت ببلدة صغيرة تدعى مايبروك، حيث يختفي 17 طفلاً من الفصل نفسه وفي الوقت نفسه تمامًا، الساعة 2:17 صباحًا خرجوا من منازلهم واختفوا فجأة بلا عودة، باستثناء طفل واحد هو أليكس ليلي.
بسبب كونهم طلابًا في فصل المعلمة جوستين غاندي تصبح هي المتهمة الأولى والفريسة المفضلة لأهالي الأطفال الذين يريدون أحدًا يلقون عليه اللوم، ومن أفضل من المعلمة التي تبخّر طلاب فصلها لتلقي هذا اللوم؟
هذا ليس مجرد فيلم رعب آخر، نكتشف في نهايته أن هناك مركبة فضائية تقبع خلف أشجار الغابة، يتسلى طاقمها باختطاف أطفال البلدة، إنما كان حكاية متشظية السرد، مقلقة الأحداث، تخترق طبقات المجتمع كلوحة فسيفسائية غامضة تنتظر من يحل ألغازها ويفكك رموزها.
لا تسير أحداث الفيلم وفق نمط زمني محدد، إنما تعتمد على نظام الفصول الذي يظهر كلعبة Puzzle مسلية. في البداية يقدم الأحداث بشكل متقطع يختلف بين شخصية وأخرى، المعلمة، الأب المفجوع، الشرطي والمدمن، تتراكم الأحداث والأسرار حتى نصل إلى الفصل الأخير الذي كان ذروة الأحداث.
كانت الكتابة هي نجم العمل الأبرز وسر تفرده الأوضح، كتابة متقنة ذكية وسرد متشظ بعيد كل البعد عن البنية التقليدية لأفلام الرعب. والحبكة أشبه بلوحة فسيفسائية تجمع بين قصص وشخصيات مختلفة تتقاطع فيما بينها مع وصول الفيلم إلى فصله الأخير.
لا وجود لخط زمني واضح، هنا الزمن يدور على شكل ومضات متقطعة تختلف باختلاف الراوي وتتقاطع بين الرواة في بعض الأحيان، هذا ما جعل السرد جزءًا من الرعب، لا مجرد أسلوب لنقل القصة.
لكن ورغم هذا كله، كان هناك ثغرات مزعجة في الحبكة، لعل أهمها كان انعدام وجود تفسير منطقي واضح لما فعلته العجوز غلاديس بالأطفال أو بالأبوين، السبب الذي جعلها ما هي عليه. أسئلة لم يفلح الفيلم في تقديم إجابات مرضية لها، لكن هذا رغم كونه مثيرًا للغيظ لم يؤثر في حقيقة تفرد الفيلم واختلافه عن أي عمل آخر.

شخصيات متجددة نامية
ولا بد لكل قصة من شخصيات تحمل أحداثها وتجسد حبكتها، وWeapons لم يفتقد إلى الشخصيات، بل على العكس ربما كانت أكثر من اللازم، لا تظهر الشخصيات دفعة واحدة، إنما تقدم حسب الرواي.
في البداية، نتعرف على جوستين، المعلمة اللطيفة أكثر من اللازم في مجتمع مقيد بحدود تدعي احترام الحريات، إنها تحب مهنتها، لطيفة للغاية مع تلاميذها، لطف ينقلب لاحقًا كي يكون سلاحًا مسدّدًا إلى حلقها عقب اختفاء معظم تلاميذها، لتتحول إلى منبوذة البلدة، الساحرة الشريرة التي خطفت أطفالهم الأبرياء. تجسد جوليا غارنر دور جوستين بتلقائية محببة، إنها تائهة مشتتة، تجد في الكحول مهربًا من اتهام قذر لا مبرر له. إنها بريئة لكنها عاجزة عن تخطي شعورها بالذنب تجاه أطفالها المفقودين، بلغة جسد ملهمة وتعابير وجه محكمة، تنجح غارنر في جعل المعلمة محورا إنسانيا مؤثرًا وسط الرعب الجماعي.

أما جوش برولين، فلربما ينبغي عليه أن يلتزم بأدوار الأكشن التي صنعت مجده. إنه ممثل جيد، وشخصية الأب آرتشر غراف الذي يرفض التسليم بما حدث لابنه بلا أي تفسير منطقي، ضرورية في الأحداث، لكن برولين يقدم الشخصية بطريقة محدودة مقيدة، تقع في فخ المبالغة والتكلف أحيانًا.
فيما كان الطفل كاري كريستوفر رائعًا بدور أليكس ليلي، الطفل الوحيد الناجي من فصل المختفيين، بأداء حساس جمع بين البراءة والرعب. كان كريستوفر بارعًا بما يكفي كي يحمل جزءًا من ثقل الفصل الأخير، والأهم في الفيلم أنه طفل عاجز عن فعل أي شيء، يقف ساكنًا يشاهد عالمه ينهار من حوله، الأمر الذي يجعلنا متعاطفين معه مدركين الثقل النفسي والعاطفي الذي يحمله.
كما كان أوستن أبرامز كنسمة منعشة في عالم الفيلم الغامض الفوضوي، بأداء ملفت بدور جيمس، مدمن المخدرات تعيس الحظ، الذي كان جزءًا مهمًا من اللغز دون رغبة منه.

لكن نجمة الفيلم الحقيقية كانت الممثلة القديرة إيمي ماديجان، التي جسدت دور غلاديس ليلي، الخالة غريبة الأطوار ذات الشعر المستعار القبيح، الشرير الرئيسي في الحكاية. غلاديس ليست مجرد خالة عانس مملة، إنها أسوأ كابوس قد يخطر على بالك، تخفي تحت شعرها المستعار وملامحها اللطيفة الودود شراً يفوق كل تصور. يُحسب لماديجان عدم وقوعها في فخ الابتذال، قد تكون مشعوذة مريبة، لكن هدوءها اللطيف يثير في النفس رعبًا لا يمكن لأي ملامح مسرحية أو صوت مزلزل أن يثيره.
ألوان ملابسها الزاهية المرحة تتناقض بشراسة مع ظلمة روحها وقلبها، مما يجعلنا نشعر برعب غير مفهوم منذ اللحظة الأولى لظهورها بابتسامتها الواسعة على الشاشة.

زاك كريغر والإبداع في الرعب
كمخرج يمتلك زاك كريغر هوية إخراجية مميزة، خاصة فيما يتعلق بعالم الرعب، حيث نجح في تلافي الكليشيهات المملة المطروقة، مفضلًا تقديم فيلم محترم يعيدنا إلى زمن أفلام الرعب الخالدة كـ The Shining وGet Out وغيرها من الأعمال التي جعلت للرعب ثقلاً ووزنًا.
تعكس كاميرا كريغر تحكمًا بارعًا بالجو النفسي والرمزي للفيلم، يكثّف القلق والتوتر والرعب المتواري باستخدام الإضاءة المنخفضة والألوان المحايدة الباردة، خاصة في منزل عائلة ليلي، الذي يظهر دافئًا مفعمًا بالألوان الخريفية المريحة. لكن وعقب انتقال غلاديس وسيطرتها على المنزل وسكانه، نراه معتمًا وفوضويًا، الأمر الذي يشعر المشاهد بالريبة والتوجس حتى قبل كشف لغز المنزل.
كانت الكاميرا بزواياها وألوانها جزءًا من الحكاية وعاملًا أساسيًا في خلق ذلك الجو المقبض المرعب نفسيًا، والذي جعل الفيلم أكثر من مجرد قصة اختفاء غريبة لمجموعة من الأطفال، كما أن تلك اللمسات الكوميدية التي تناثرت خلال الأحداث كانت حركة موفقة كسرت قليلًا من التوتر والقلق الطاغي على الأحداث.
لقد أثبت كريغر أنه مخرج متمرس، متمكن من أدواته الإخراجية فيما يتعلق بأعمال الرعب، الأمر الذي يجعلنا متحمسين لما قد يقدمه لاحقًا، ولربما يتحول بعد أعوام إلى واحد من أولئك الذين يعرفون المعنى الحقيقي للخوف.

احترام الأساطير
كثيرة هي العوامل التي جعلت من Weapons فيلمًا استثنائيًا، لكن اقتباس الأساطير بطريقة محترمة وتطويع رمزيتها بطريقة تختلف عن الفجاجة الهوليوودية المعتادة، كان عاملًا مفصليًا قطعاً.
في بداية الفيلم، لا بد أن تخطر أسطورة عازف المزمار الألمانية في ذهنك، تروي الأسطورة المرعبة حكاية تقع في بلدة هاملن التي ابتليت بالجرذان، فيستعين أهل القرية بعازف غامض يستخدم مزماره كأداة تسحر الجرذان بعيدًا، عقب رفض أهل القرية منح العازف أجره، يستخدم مزماره لأخذ أطفال القرية بعيدًا.
أسطورة مخيفة ومقبضة، أحسن الفيلم تطويعها منذ البداية، خاصة أن الراوي كان طفلًا، لا رعب يفوق رعب الأطفال، الذين غالبًا ما نجدهم رمز البراءة والهدوء.
مع تقدم أحداث الفيلم، نكتشف أن غلاديس العجوز هي المسؤولة الأولى عن كل ما ألّم بالبلدة، ولو نظرنا إلى الأمور من منظور الفولكلور الهاييتي خاصة ومنطقة الكاريبي عامة، يبدو أن غلاديس تمارس الفودو، تلك العقيدة الروحانية المفعمة بالأساطير والحكايات، والتي شوهتها هوليوود بشكل كامل.
يحترم العمل أصل الأسطورة فنرى أن غلاديس تجرّد ضحاياها من إرادتهم، تسيطر عليهم بواسطة أجزاء من جسدهم أو متعلقاتهم الشخصية، أو ما يعرف بالـ “فيتيش”. إنهم لا يتحولون إلى وحوش مشوهة تريد التهام الأدمغة، لكنهم يفقدون إنسانيتهم، يتحولون إلى أداة ولعبة في يد غلاديس التي تلتهم أرواحهم وطاقتهم كما يمكن أن نستنتج لتصبح رمزية للسطوة المطلقة التي تجرد الآخرين من أبسط حقوقهم، حرية أن تكون أنت.
في إحدى المشاهد، نراها تحيط عبيدها بالملح، الذي يمتلك خصوصية معينة في ثقافة الفودو، إذ أنه رمز للنقاء ووسيلة للتحرر أو السيطرة، الأمر يختلف باختلاف الأسطورة، لكن هناك أمرًا واحدًا مؤكدًا، فيلم Weapons كان فيلم رعب حقيقي، يلامس قلوبنا، يثير رعبنا وتوجسنا، يحترم تراثًا عريقًا من الأساطير، ويسخرّها بطريقة تليق بها.
إنه عمل يعيد للرعب مكانته السامية التي أفسدتها السينما في الأعوام الأخيرة، ودليل لا ينقض أن الرعب لا يستلزم وحوشًا مخيفة أو مشاهد مقززة، أحيانًا ما يكون الرعب هنا حولنا، في داخلنا، أو قد يتجسد في الخالة العجوز القبيحة، اللطيفة أكثر من اللازم.

Movie Critic