ضحيّةٌ أُخرى تغوص في مستنقعِ السياسةِ الأمريكيّة، وللأسف، ضحيّتُنا هي المخرج بونغ جون هو.
في السنواتِ الأخيرة، تحوّلت السينما الأمريكيّة من فنٍّ راقٍ ومصدرٍ لأجملِ وأغربِ القصص، إلى ماكينةِ بروباغندا وساحةٍ لحلِّ النزاعاتِ السياسيّة وتشويهِ صورةِ الطرفِ الآخر. وهو ما قد اعتدناهُ صراحةً، ولكنّ رؤيةَ مخرجٍ محبوبٍ آخر يتلوّثُ بعدوى النزاعِ المسعور للسياسةِ الأمريكيّة هو دائمًا أمرٌ محزن.
وهذا ما حصل مع المخرج الكوري بونغ جون هو في فيلمه Mickey 17.

يتناولُ الفيلمُ قصةَ شابٍّ يهربُ من مشاكله على كوكبِ الأرض، عبر انضمامه لبرنامجِ مستعمرةٍ فضائيّة بصفته “شخصًا يمكنُ الاستغناءُ عنه”؛ وهو شخصٌ وظيفتُه أن يموتَ ويُعادَ إحياؤُه مرارًا وتكرارًا بما يخدمُ مصلحةَ المستعمرة.
الفكرةُ بحدِّ ذاتِها مثيرةٌ للاهتمام، حيثُ يُثيرُ مبدأ الفيلم عددًا كبيرًا من الأسئلة حول هذا العالم:
ما المعضلاتُ الأخلاقيّةُ والفلسفيّة التي يمكنُ أن تنتجَ عن الاستنساخِ وإعادةِ الإحياء؟ وما هو معنى الحياة بعد أن يصبح بإمكاننا صُنعُها من الصفر؟
وهذا هو التوجّهُ الذي ستشعرُ أن الفيلمَ سيتبعُه في رُبعِه الأوّل، لتُفاجَأ بتحييدِ كلِّ هذه الأفكار، ليركز الفيلم على حملته لنقدٍ وتشويهٍ الصورةِ السياسةِ لليمينِ الأمريكي بشكلٍ عام، وللرجلِ البرتقالي (دونالد ترامب) بشكلٍ خاص.
ويجدرُ بنا الذكر أن الفيلم كان من المفترض أن يُصدَر قبل الانتخاباتِ الأمريكيّة، ولكن تمّ تأجيلُه بسبب إضرابِ الكتّاب الأمريكيّين.

هل كان ميكي 17 فيلمًا سيّئًا؟
بالتأكيد لا. ففيلمٌ عاديٌّ لـ بونغ جون هو يكون غالبًا أفضلَ من أغلبِ أفلامِ مخرجي هذه الأيام.
ولكن، من الصعبِ وصفُهُ بفيلمٍ “فوقَ الجيّد”، فقد عانى الفيلمُ من لعنةِ الشخصيّاتِ الثانويّةِ الضحلة، بالإضافةِ إلى الأداءِ الكرتوني لكلٍّ من مارك روفالو وتوني كوليت في دورِ رئيسِ البعثةِ وزوجتِه المتسلطة.
كما واجه الفيلمُ مشكلةَ “ضياعِ البوصلة”، بين فيلمٍ واعدٍ يُناقشُ معنى الإنسانيّة، وبين حملةٍ كحملات مطاردةِ الساحرات في العصورِ الوسطى، ولكنّ الهدفَ هنا هو اليمينُ الأمريكي.

ولكن لم يخلُ الفيلمُ من الإيجابيّات؛ فالكاميرا، والأسلوبُ العابرُ للّغات للمخرج بونغ جون هو، يُثبتُ نفسَه بقوّةٍ مرّةً أُخرى، بالإضافةِ إلى الأداءِ الرائعِ لـ روبرت باتينسون، في دورٍ صعبٍ ومتطلّب، رفعَ من مستوى الفيلم بشكلٍ كبير. فمن المعروف عن باتينسون قدرتُه على بناءِ تفاعلٍ كيميائيٍّ مع زملائه الممثّلين، ولكنّه يخطو خطوةً جديدةً بأن يبني تفاعلًا كيميائيًّا مع نفسه! ففي المشاهد التي جمعت ميكي 17 و 18، تكادُ تنسى أنّ الممثلين هما شخصٌ واحد، وهما ليسا في الغرفةِ نفسها، يخوضانِ النقاشَ الذي تسمعُه.
فيلم ميكي 17 بحدِّ ذاته كان مشاهدةً ممتعة، ولكنّه لا يرقى إلى مستوى فيلم بونغ جون هو السابق Parasite.
ولا يمكنُنا إلّا أن نقفَ ونتساءل: هل كان من الممكن أن يكونَ الفيلمُ أفضلَ لو لم يُغمسْ في السياسةِ الأمريكيّة؟
وأيُّ مخرجٍ سيكونُ الضحيّةَ القادمةَ لمستنقع تلك السياسات؟

Movie Critic in Cinatopia