كيف استطاعت نيتفليكس كسر لعنة مئة عام من العزلة

إنه “غابريال غارسيا ماركيز” عميد الأدب الإسباني وفخر وطنه كولومبيا, تلك البلاد اللاتينية الفقيرة التي كرّمها ماركيز الراحل في أعماله التي كتبهما كي تبقى خالدة مدى الزمن حتى بعد رحيله عن عالمنا شاهدة على موهبة فذة وخيال يتخطى كل حدود. 

كثيرة هي أعمال ماركيز، لكن “مئة عام من العزلة” هي بلا شك واحدة من أعظم روايات الأدب العالمي, والتي خاطرت نتفلكس لتقديمها على الشاشة الصغيرة في مسلسل مؤلف من 16 حلقة مقسمة إلى جزئين, ذلك خلافاً لوصية مبدعها الذي ناضل طويلاً ضد تحويل هذه الرواية إلى الشاشة, إذ شعر أن تحويلها إلى فيلم لن يقترب من سطح هذه الحكاية المتشعبة التي استمرت قرناً من الزمان.

لا يمكن وصف مئة عام من العزلة على أنها مجرد رواية, إنها ملحمة إنسانية وتصوير تاريخي وسياسي دقيق لكولومبيا الرازحة تحت الانقسامات والحرب الأهلية المدمرة، إنها عمل ضخم للغاية وتمثل ذروة أدب الواقعية السحرية والأدب الإسباني بشكل عام.

تنطلق أحداث المسلسل انطلاقة مماثلة لتلك التي في الرواية، حيث نرى رجلاً يقف منتظراً إعدامه رميا بالرصاص، يدوي صوت الراوي موضحاً “بعد سنوات كثيرة وبينما كان يواجه فرقة الإعدام، عاد الكولونيل أوريليانو بوينديا بالذاكرة إلى تلك الظهيرة البعيدة، عندما أخذه والده كي يرى الثلج لأول مرة”

تعود بنا الأحداث إلى الماضي إلى منتصف القرن التاسع عشر, وهناك نشهد بداية الحكاية في حفل زفاف “خوسيه أركاديو بوينديا” و“أورسولا إيجواران”، إنهما أبناء عمومة لذا فإن زواجهما يثير استياء والدة “أورسولا” التي تتنبأ لابنتها بأن ذريتهما ستولد بذيل خنزير، تنقلب حياة الزوجين جحيماً بعد قتل “خوسيه” لرجل آخر سخر من زواجه في مبارزة، إذ يطاردهما شبح الضحية في كل مكان بلا رحمة، الأمر الذي يجبرهما على مغادرة المدينة والبحث في البحر عن ذلك المكان الساحر الذي سيكون ملجأً لكل المنبوذين لكن “خوسيه” يفشل في إيجاد وجهته وعوضاً عن ذلك يقرر بعد رؤية داهمته ذات يوم تأسيس قرية جديدة داخل المستنقعات حملت اسماً لم يسمعه إنسان قبل .. ماكوندو.

لأعوام وأعوام ظلت ماكوندو معزولة عن العالم الخارجي قابعة هناك في اللامكان بسعادة، لقد أصبح “خوسيه أركاديو” و”أورسولا” أبوين لطفلين جميلين هما “خوسيه أركاديو الابن” و“أورليانو الفتى” صاحب الحدس التنبؤي، لكن فجأة يخترق الغجر عزلة القرية الصغيرة برئاسة “ميلكيادس” صاحب الاختراعات العجائبية التي تسحر “خوسيه أركاديو بوينديا” لدرجة تذهب البقية الباقية من عقله، تصبح زيارة الغجر إلى ماكوندو حدثاً سنوياً يترقبه القرويون لتصبح القرية أرضاً للعجائب، فقط في ماكوندو يطير الكهنة والأطفال في الهواء ويختار الموتى عدم الموت, فيما يروج الغجر لمجموعة من المعجزات كالخيمياء والمغناطيس والثلج، تنتقل الكاميرا بسلاسة من منزل إلى آخر مبشرة بسر جديد قابع خلف كل باب, ويستمر المسلسل عبر ثماني حلقات في سرد القصة المعقدة المربكة لتلك القرية المعزولة.

لأعوام طويلة اعتبرت هذه الرواية غير قابلة للتصوير, فأحداثها تدور في مكان واحد وتنتقل عبر سبعة أجيال من العائلة نفسها، كما أنه من الصعب تجسيد تلك الصور التي زرعها ماركيز في خيال كل من قرأ تحفته, فالصور على الشاشة لن ترقى ابداً لتلك المتعة الأصيلة التي يقدمها الخيال، ولعل هذا ما جعل النقاد يصفون مئة عام من العزلة بأنها رواية ملعونة.

وهنا ينبغي منح منصة نتفلكس تقديراً كبيراً، لقد كان التحدي صعباً للغاية فمئة عام من العزلة عمل جنوني معقد مفعم بالرمزيات والصور التي لا تنسى, والتي يستحيل التخلي عنها, والتي صورت جميعها بدون الاستعانة بتقنيات الـ CGI المزعجة أحياناً والمكلفة بشكل مرعب، عوضاً عن ذلك شاهدنا صوراً رمزية مغلفة بالواقعية مقدمة بعناية جعلتها صوراً جميلة بشدة، أمطار, الزهور الصفراء, قطرات الدم التي تتسرب بشكل مستحيل فيزيائياً إلى قدمي أورسولا، صور رسخها ماركيز قبل أكثر من نصف قرن في ذاكرة القراء, استطاع المسلسل التلفزيوني نقلها بأمانة ودقة.

لم يكن منح الحياة لصور ماركيز الأيقونية التحدي الوحيد أمام نتفلكس عندما قررت إنتاج مسلسل عن رواية مئة عام من العزلة، فكل من قرأ التحفة الأسطورية لا بد أنه واجه مشكلة حقيقية في تمييز الشخصيات الذكورية بعضها من بعض, فجميعهم يحملون أسماء متشابهة لذا فقد كان الأمر أسهل في النسخة التلفزيونية فهكذا ستضع وجوهاً مختلفة تجعلك تُميز بينهم بدلاً من التلاعب الذهني ومحاولة تذكر جميع “الأركاديو” وهنا ينبغي التنويه إلى حقيقة أن العمل امتلك طاقم تمثيل ضخماً ومتقناً منح الحياة لشخوص لطالما أثارت حيرتنا وإعجابنا.

أما التحدي الأكبر فهو الشخصيات نفسها، كما قلنا قبلاً, تنبأت والدة “أورسولا” أن لعنة ستحل على ذرية ابنتها بسبب زواج الأقارب، لربما لم يولد أي طفل بذيل خنزير، لكن أبناء وأحفاد خوسيه أركاديو بوينديا حُكم عليهم بالهلاك بطريقة أخرى، لقد قدر لهم أن يكرروا أخطاء أسلافهم مرة تلو مرة، إنهم حالمون شهوانيون لا يعرفون حدوداً، أما حياتهم الجنسية فقد شكلت مشكلة حقيقية أمام العمل التلفزيوني، فالكتاب يعج بمجموعة منتقاة من أسوأ ما يخطر على بالك من علاقات معقدة، اغتصاب, تحرش, زنا, محارم, علاقات تُعتبر اليوم مقززة على أقل تقدير، وتجعل من العلاقات في سلسلة الجليد والنار بريئة بحق، يحاول العمل تخفيف جرعة الشهوانية هذه قدر المستطاع دون إلغائها طبعاً فهي ركيزة لا غنى عنها في عالم ماكوندو الشائك والمعقد الذي أبدعه خيال ماركيز الجامح, وهي أساس النسيج النفسي الذي ساهم في تطور كل شخصيات ذلك العالم المعقد الذي أبدعه خيال ماركيز الجامح.

الأمر الذي لم يعجب أغلب النقاد خاصة في الغرب الذين هاجموا المسلسل معتبرين أنه يروج لعلاقات سامة مشبوهة، خاصة علاقة بيلار مع ابني صديقتها أورسولا, والتي وصفت بالقذرة والمريضة، لا أدري حقاً ما الذي يمكن توقعه من عمل خارج من عقل مضطرب كعقل ماركيز، هل ينبغي للأسطورة الكولومبية أن يبعث من القبر كي يعيد صياغة ملحمته التي ألفها في ستينات القرن الماضي عن مستوطنة خيالية في منتصف القرن التاسع عشر كي يرضي الأذواق المعاصرة؟ هذا مستحيل طبعاً إضافة إلى وجود أمر غفل عنه أولئك النقاد، عند نقل عمل أدبي إلى الشاشة فإن أبسط ما يمكن تقديمه هو احترام الأصل وإظهار الجوهر الحقيقي للعمل حتى لو لم يعجبك، وكل العلاقات المحرمة غير المستساغة شكلت قلب الرواية وجزءاً رئيسياً من سحرها الطاغي، لقد كان هذا المسلسل مذهلاً بحق واستطاع ببراعة إعادة تقديم رواية أسطورية بشكل يليق بمكانتها الرفيعة، بطاقم تمثيلي مختار بدقة والتزام واضح بالمسار القصصي والأجواء التي جعلت مئة عام من العزلة ما هي عليه اليوم، لقى صناع المسلسل أهمية الرواية التاريخية ووضعت طاقاتها الإنتاجية الهائلة لتقديم نسخة تلفزيونية تليق بالرواية التي لا تزال بعد أكثر من نصف قرن تحفة أدبية ومرجعية لا غنى عنها في عالم أدب الواقعية السحرية.

لقد أعادت نتفلكس الحياة إلى تحفة ماركيز المذهلة والمعقدة، وكان العمل أميناً لأصله مدركاً لأهمية وخصوصية عالم الرواية الفريد، لقد كان العبث بعالم ماكوندو مستحيلاً, فأي تغير بسيط سيلحق فشلاً ذريعاً بالعمل ويجر غضباً كاسحاً عليه، لكن مخرجي العمل أليكس غارسيا لوبيز ولورا مورا كانا بالفعل على قدر التحدي، أما غابريال غارسيا ماركيز بروحه المبدعة الغريبة التي لم تهدأ يوماً، فكان هناك ماثلاً في كل مشهد في كل زاوية يذكرك بأن ما تراه هنا ما هو إلا نتاج لقريحة أدبية أحرقتها الموهبة الإستثنائية، لقد كان مسلسل مئة عام من العزلة واحداً من أكثر الأعمال إخلاصاً واحتراماً لأصله الروائي.

ورغم أن وتيرة المسلسل تبدو مملة في بعض الأحيان، فإن جمال مئة عام من العزلة يسمح للمشاهد باستيعاب كل مشهد مهما بلغ تعقيده, ونتيجة لهذا، فإن ماضي بوينديا هو صدى مستمر, بغض النظر عن الجيل الذي تنتمي إليه القصة حالياً، إنه تذكير بمدى تأثير الماضي على الحاضر ولماذا يجد البشر أنفسهم مرغمين على تكراره

إن مئة عام من العزلة هو وبلا شك واحد من أهم أعمال هذا العام، في انتظار القسم الثاني من العمل والذي سيكمل حكاية ماكوندو, تلك المستوطنة المعزولة الجميلة التي دُمرت يوم عرفت الحضارة والسياسة ويوم خرجت من عزلتها.


11 صوت - التقييم 4.7