إنه لمن المسلمات أن مدينة ڤينيسيا أو البندقية تمتلك قسطاً وافراً من السحر والجمال, سحر يتجسد في تفرد طرقاتها المائية وجندولاتها وطبعاً المهرجان السينمائي الأشهر الذي لم يفشل لثمانية عقود طويلة في استقطاب الاهتمام الإعلامي وحفظ مكان مميز كواحد من أهم وأقوى الفعاليات السينمائية

عاماً تلو عام نجح مهرجان ڤينيسيا في إثارة الجدل والاهتمام ففي العام الفائت قرر استضافة ثلاثة من منبوذي عالم الفن السابع هم رومان بولانسكي وودي آلان ولوك بيسون رغماً عن أنف كل معترض كتأكيد على حرية السينما وتحررها من أي قيود اجتماعية أو حتى قانونية أحياناً 

لا تفتقد هذه الدورة إلى السحر والأصالة إذ يبدو أن ألبرتو باربيرا مدير المهرجان يعشق جعل مهرجانه تحت الأضواء بداية من اختيار الرائعة الفرنسية إيزابيل أوبير لترأس لجنة التحكيم انتهاء بكم مذهل من الأفلام المنتظرة التي لربما تقلب موازين هذا العام الفقير سينمائياً لكن ومع انطلاق الفعاليات كانت أغلب الأنظار مصبوبة على ممثلة عائدة بشراسة إلى المنافسة عقب أعوام طويلة قضتها بعيداً عن الشاشة الكبيرة مانحة الحب والاهتمام لأولئك الأقل حظاً بأضعاف، لقد عادت أنجلينا جولي والعود أحمد معيدة معها أيقونة موسيقية لا ولن ولم تنس يوماً، لقد عادت ماريا كالاس إلى الحياة مجدداً 

يستمد الفيلم أحداثه من الأيام الأخيرة في حياة مغنية الأوبرا الأشهر اليونانية ماريا كالاس المرأة التي شغلت العالم كله بصوتها الخلاب وموهبتها المدمرة وقصة حبها الأسطورية مع الملياردير الشهير أرسطو أوناسيس الحب الذي كان أحد أسباب وفاتها المبكرة ولأسباب كثيرة يبدو أن الفيلم يتصدر اهتمام الصحافة والجمهور على حد سواء 

لا يمكن لأحد إنكار التحدي الهائل الذي وقعت تحته جولي فماريا لم تكن مجرد مغنية أخرى بل كانت تاريخاً وعلامة فارقة في عالم الأوبرا وامرأة مشتتة محطمة تائهة خذلتها الحياة وكسرها الحب ولعل هذا ما جعل أنجلينا أفضل من يجسدها للمرة الأولى فكلتا المرأتين دمرهما الحب وخذلتهما الحياة بقسوة

لأجل ماريا أخذت جولي المدركة تماماً لصعوبة التحدي دروساً في الغناء بعدما أصرت على الغناء بنفسها في الفيلم عوضاً عن الاستعانة بتسجيلات نقية الصوت كما فعلت ماريون كوتيار عندما أذهلت العالم بتجسيد دقيق للأسطورة الموسيقية إديث بياف لكن الغناء -رغم صعوبته كتحد- لم يكن التحدي الوحيد أمام جولي فالفيلم يركز على حياة ماريا الشخصية التي كانت صاخبة بقدر حياتها المهنية وأكثر مأساوية بأضعاف إذ يبدو أن موهبة ماريا المرعبة لم تمنع الحياة من التلاعب بها وخذلانها مرات ومرات وسيتعين على جولي أن تلج إلى الأعماق المحطمة المخذولة للمرأة التي قلبت موازين عالم الأوبرا رأساً على عقب صاحبة لقب “صوت القرن” والتي قد تقلب مسيرة أنجلينا جولي كممثلة أيضاً 

من المثير للاهتمام أن مخرج الفيلم بابلو لارين سبق له أن أخرج فيلماً عن حياة المرأة التي حطمت قلب ماريا السيدة الأمريكية جاكي كينيدي والتي تزوجت لاحقاً من عشيق ماريا كالاس أرسطو أوناسيس عقب أعوام قليلة من مقتل زوجها، عبر مسيرته الإخراجية نجح لارين في صنع أفلام سيرة ذاتية قوية كان آخرها فيلم Spencer الذي تناول الأيام الأخيرة من حياة الأميرة الراحلة ديانا فهل سيكرر لارين نجاحه مع أنجلينا جولي؟

لا يزال الوقت مبكراً لطرح إجابة واضحة لكن الفيلم نال استحسان أغلب المشاهدين والنقاد الذين توافدوا لمشاهدة ماريا في ڤينيسيا مانحين الفيلم تصفيقاً طال ثماني دقائق كاملة ودموعاً انهمرت من عيني أنجلينا الجميلتين التي وضعت روحها وقلبها وكل ما بوسعها من موهبة لتعيد الحياة لصوت القرن.

يعرف أغلب عشاق عالم الفن السابع السحر الخلاب لأفلام السيرة الذاتية إن تجسيد الممثل لشخصية تاريخية قد يكسبه الأوسكار كما حدث مع كيليان ميرفي الذي توج أوبنهايمر مسيرته كممثل أو ماريون كوتيار الحسناء الفرنسية التي دخلت التاريخ من أوسع أبوابه كأول فرنسية تنال أوسكار أفضل ممثلة وغيرهم الكثير

فهل سنرى اسم أنجلينا جولي محفوراً على قاعدة أهم جوائز عالم السينما؟ يبدو أن الاحتمالات تتضاعف فالرضى النقدي الذي ناله الفيلم كان غير مسبوق قطعاً 

لن يكون ماريا الفيلم الوحيد الذي يستقطب الاهتمام في البندقية طبعاً فالمهرجان الشهير يكتظ بمجموعة قوية من الأفلام المبشرة التي تتنافس فيما بينها كفيلم Baby Girl الذي أعاد كلاً من نيكول كيدمان وأنتونيو بانديراس إلى الأضواء بعد غياب إضافة إلى Queer فيلم دانيال كريغ الأحدث وطبعاً الجوكر الفيلم المنتظر بشدة منذ أكثر من عام 

لكن ومما نلحظه من اهتمام إعلامي وآراء نقدية متباينة يغلب عليها الرضى فلربما تنال ماريا حصة الأسد في البندقية مجازياً وحرفياً أيضاً إنها منافسة قوية هذا العام, لقد كان هذا الفيلم تحية حب وإجلال للمرأة التي نجحت في أن تجعل العالم يذكرها حتى عقب رحيلها المبكر لقد كانت ماريا امرأة استثنائية تحتاج امرأة استثنائية أخرى لتعيدها مرة واحدة أخيرة إلى محبيها 

لم أشاهد الفيلم بعد لكنني أعرف الشغف والحب والموهبة التي جبلت بها جولي وأعلم قطعاً أنها وضعت كل جهدها لأجل ماريا, قد لا تفوز أنجلينا بأوسكار لكن ترشحها وخلودها في ذاكرة السينما أمر لا شك فيه وفي النهاية ما يجعل السينما ما هي عليه هو ذلك السحر الذي يجمع الفنون في مكان واحد فقط السينما تستطيع فعلها.

صورة لصوت القرن ماريا كالاس
3 صوت - التقييم 8

من Sandy Laila

Movie Critic