6 أسباب تجعلنا ننجذب للأشرار في السينما

في زمنٍ يُستَهلَك فيه الشر كترفيه، تتضاعف مسؤولية المشاهد، أن يفهم دون أن يُبرر، وأن يتعاطف دون أن يُطبع.

لا يقتصر عالم الخيال على تقديم الأبطال الخارقين والمغامرات المشوقة فحسب، بل يعمل كمرآة تعكس صراعاتنا الأخلاقية والوجدانية. أحيانًا، تتداخل طبقات القصة بحيث يصبح المجرم منقذًا ذا ماضٍ معقد يستحق التعاطف، وتتحول الضحية إلى عائق جانبي، والجريمة إلى تضحية، بل وحتى الإبادة إلى ضرورة. في هذا الانزلاق، لا يدين الجمهور الفعل، بل يبحث عن مبرراته لمجرد أن من ارتكبه شخصية محبوبة أو جذابة أو ذات كاريزما. وتتحول مشاعر التعاطف والارتباط الدرامي إلى أداة لنزع الضوابط الأخلاقية، فتتحول تلك الأفعال الفظيعة إلى لحظات بطولية في ذاكرة المشاهد.

فلماذا يتعلق الجمهور مع شخصية ترتكب جريمة؟ ولماذا يتحول السرد أحيانًا من طرح سؤال إلى تبرير فعل؟ هل هناك هدف من تجميل الشر؟

منظور فلسفي، بين الواجب الأخلاقي وتبرير الشر

هل يمكن تبرير الفعل الشرير إذا أدى إلى غاية “خيرة”؟ إيمانويل كانط يجيب بالنفي القاطع، مؤكدًا أن “الأفعال الأخلاقية لا تُقيَّم من نتائجها، بل من احترامها للقانون الأخلاقي.” وفقًا لكانط، لا يجوز تبرير الشر حتى لو خدم هدفًا ساميًا، لأن احترام الكرامة الإنسانية لا يقبل المقايضة.

اما نيتشه يعارض فكرة القانون الأخلاقي الكانطي، يرى أن الأخلاق التقليدية تُقيد الإرادة الحرة، ويُعلي من شأن القوة والإرادة الفردية في تشكيل القيم، حيث لا يرى نيتشه “الشر” مطلقا, قد يُقرأ أحيانًا كتبرير للفعل,و أن الشخص الذي يمتلك غاية عظيمة يمكنه تبرير الأفعال الشنيعة وتحمّل نتائجها. وهو ما يشبه أفعال شخصيات مثل ثانوس من Marvel، الذي ارتكب إبادة جماعية بحجة الحفاظ على “التوازن الكوني”، أو إيرين ييغر في Attack on Titan الذي نفّذ “دك الأرض” لردع الإبادة المضادة لشعبه، أو لولوش من Code Geass الذي ضحى حتى باخوته في سبيل تغيير النظام.

أما هانا أرندت في “تفاهة الشر”، ترى أن الجرائم الكبرى لا تُرتكب دائمًا عن طريق الوحوش، بل على يد أشخاص عاديين ينفذون الأوامر بلا تفكير أخلاقي: أكبر الشرور في العالم ارتُكبت من دون نوايا شريرة، بل ببرود وبلا تفكّر. طبيعة الشر المؤسساتي الذي يصنع الأفراد، أو يُسخّرهم. لا يعود الشر ناتجًا عن قرار شخصي محض، بل عن نظم كاملة تبني الشر وتصنع أدواته

الأمثلة لا تحصى هنا سنذكر منها الفردية الجبل (سير غريغور كليغين) في Game of Thrones يجسّد آلة عنف تنفذ الأوامر بلا وعي أو نية، شر ناتج عن تعطيل الضمير وطاعة بلا نقاش. من الإنمي ايتاشي من ناروتو نفذ أمرًا مباشرًا من السلطات (دانزو)

تأثير السرد العاطفي – متلازمة ستوكهولم جماعيّة

يُشبه تعاطف الجمهور مع الشخصيات الشريرة نوعًا من متلازمة ستوكهولم على مستوى جماعي، إذ ينجذب المتابعون إلى الجاني بسبب ارتباطهم العاطفي الطويل به داخل القصة، فيبدأون بتبرير أفعاله بل وحتى الدفاع عنه، رغم أنه مصدر الأذى أو العنف. هذا التعلّق لا يأتي من قبول منطقي، بل من تأثير السرد، والتعرض المستمر، والتعاطف التدريجي حتى يتماهى المشاهد مع دوافعه وألمه.

الآليات النفسية والعوامل الاجتماعية والثقافية للتعاطف مع الجريمة

1- التبرير الأخلاقي :

يرى الجمهور أن أعمال الشرير “لها غاية أخلاقية” كالانتقام من الظلم أو حماية الأغلبية او الانقلاب ضد السلطة الظالمة، ما يخفف المكابرة الداخلية لقبول العنف. فـ لايت من Death Note يرى استخدام “مذكرة الموت” لقتل المجرمين ضرورة أخلاقية “من أجل عالم خالٍ من الشر، مستخفًا بقدسية الحياة الشخصية بعد توصيفهم بأنهم “غير جديرين بالعيش”. وفي فيلم V for Vendetta يُستخدم العنف لإسقاط نظام استبدادي، ما يجعل أفعاله تُفسر على أنها مقاومة أخلاقية ضد الظلم.

2- المقارنة المواتية :

يقارن المتابعون جرائم الشرير بأفعال أكثر بشاعة، فيظهر فعل الشرير أقل سوءًا وبالتالي يصبح مقبولًا أو مبررًا. في Breaking Bad يظهر والتر وايت وهو يقتل تجار المخدرات الأشرار كعمل بطولي وحساب للأشرار، مقارنةً بالأشرار الآخرين الذين يستخدمون العنف والتدمير دون ضمير، ما يجعل أفعاله تبدو أقل سوءًا. كذلك، تُقارن جرائم الجوكر في The Dark Knight بفساد وعنف العصابات، ما يجعل فوضويته تبدو أقل سوءًا. أما مايكل كورليوني في The Godfather فيُنظر إليه كأقل وحشية مقارنةً بالعائلات الأخرى في مافيا نيويورك، فتُبرر أفعاله كحماية لعائلته.

3- التشويه الإنساني :

عندما يُصور الضحايا “كآخرين” خارجيين ليس لهم مشاعر، ليسوا بشرًا، وليسوا اخلاقيين قد يكونو أفراد او جماعات منتمية إلى شركات او حكومات عندها يخف الألم النفسي عند الجمهور لقبول القتل أو التعذيب.

4- النقل السردي والتعاطف التدريجي :

عند انغماس المتابع بالقصة، يشعر بواقعية الدوافع الداخلية للشرير ويُعزز التعاطف معه، حتى لو كانت أفعاله وحشية، لأن “القصة” تخاطبه عاطفيًا. شوجو ماكيشيما في Psycho-Pass يُبنى سرديًا كـ“ثائر” ضد نظام سيبيل فيتماهى معه المشاهدون ويبررون جرائمه. والتر وايت في Breaking Bad يتحول من مدرس بسيط إلى زعيم مخدرات، ويبرر أفعاله بذريعة حماية عائلته، مما يعزز تعاطف الجمهور معه رغم أفعاله الإجرامية.

5- التطور التدريجي للشخصية :

غالبًا ما يبدأ الأشرار كشخصيات عادية أو حتى طيبة، ثم يتدهور تدريجيًا بسبب ظروف معينة. رؤية هذا التحول تخلق نوعًا من التعاطف، حيث يرى الجمهور “الإنسان” الذي كان موجودًا قبل أن يصبح شريرًا، كما هو الحال مع والتر وايت الاستاذ المصاب بالسرطان الذي يرغب بتأمين حياة كريمة لاسرته بعد موته، أو إيرين ييغر الذي نشأ في بيئة من الصراع لأجل البقاء والحقد العالمي الموجه ضد جزيره جعلت من أفعاله العنيفة مأساة مفهومة يبرر الجمهور هذا الفعل باعتباره “الحل الوحيد” لحماية سكان الجزيرة من الحقد والكراهية الموجهة نحوهم.

6- ظاهرة Woobification (التحبيب الزائف) :

تُحول الشخصيات الشريرة إلى محبوبة من خلال التركيز على معاناتها، وتُصوَّر أفعالها الفظيعة كمآسي إنسانية. يُقصد بها تحويل الشرير إلى كائن محبوب عبر التركيز على خلفيته المؤلمة ودراما مأساته، حتى يتساوى متابعو هذه الشخصية مع “مناصري العدالة الاجتماعية” بدعوى “فهم السياق الكامل”. يؤدي هذا السلوك إلى إسكات النقاش النقدي حول الفظائع الحقيقية التي ارتكبتها الشخصية، وإطراء سلوكياتها باعتبارها “لا بديل عنها” أو لانها أتقنت دور الضحية.

.فعلى سبيل المثال، نجد إيتاشي أوتشيها الذي قتل قبيلته حفاظًا على السلام، و باين/ناجاتو الذي دفعته الخسارات والحروب إلى اللجوء إلى العنف لتحقيق السلام، و راينر براون الذي جُند قسرًا وعانى صراع الولاء والذنب، وماغنيتو الناجي من محرقة اليهود، ولوكي الذي يكافح داخل أزمات طفولته وتنافسه مع أخيه، وثانوس الذي ارتكب إبادة جماعية لكنه آمن بأنها الوسيلة الوحيدة لإنقاذ الكون. كما تجسد شخصية يوهان ليبر مأساة طفولته المليئة بالعنف والتشويه النفسي وتقدمه كضحية محطمة .

7- النزعة إلى (Anti-Hero & Dark-Hero) :

يرتبط اهتمام الجمهور بـ”الأبطال الظل” والشخصيات الخيالية التي تتجاوز الخطوط الحمراء بما يلي:

التحرر من القواعد الأخلاقية التقليدية: يقدّر بعض المتابعين شعور الحرية الذي تمنحه شخصية الشرير في تحدي الأعراف والقضاء على المجرمين بطريقة “نهائية”. توماس شيلبي في Peaky Blinders هو زعيم عصابة عنيف ومتآمر، لكنه يُعتبر بطلًا من قبل متابعي السلسلة بفضل حبه لعائلته ورغبته في إخراج وطنه من الفقر.

8- التنفيس العاطفي :

تُعتبر مشاهدة العنف وسيلة لتفريغ الغضب والضغوط، واداة لإيجاد الاثارة مع تقليل الشعور بالذنب عبر آليات الانفصال الأخلاقي والمسافة الآمنة بين المشاهد والعنف .

9- الميل للرمزية والإساقط الداخلي :

يرى بعض المتابعين في الشرير تجسيدًا رمزيًا لصراعهم الداخلي ضد الظلم أو القهر، فيشعرهم بأن “الصراعات الكبرى” تحتاج إجراءات قاسية. ثانوس في Avengers: Infinity War يُعجب الجمهور بفلسفته حول “التوازن الكوني” ما يجعل أبشع إباداته تبدو ضرورية.

10- السياق الثقافي والاجتماعي :

تختلف القيم والمعايير الأخلاقية من ثقافة إلى أخرى. فما يُعتبر شرًا مطلقًا في مجتمع ما، قد يُنظر إليه بشكل مختلف في مجتمع آخر. في بلدان عانت من قمع طويل، قد يُنظر إلى الثائر العنيف على أنه بطل تحرري، كما يحدث في استقبال شخصية مثل V في V for Vendetta أو ليلوش في Code Geass.

11- الهوية الاجتماعية :

في بعض الحالات، قد يتعاطف الجمهور مع شخصية شريرة إذا شعروا بأنها تمثل مجموعتهم أو هويتهم بطريقة ما، حتى لو كانت أفعالها غير أخلاقية.

12- المقاومة السلبية للضحايا :

في بعض الحالات، قد يقل تعاطف الجمهور مع الضحايا إذا تم تصويرهم بشكل سلبي أو أحمق أو مستفز، ما قد يجعل قط أفعال الشرير تبدو “مستحقة”.

13- الفكاهة السوداء :

أحيانًا، تستخدم القصص الفكاهة السوداء المرتبطة بالشخصية الشريرة لتخفيف التوتر وجعلها أكثر جاذبية أو حتى “مرحة”، مما قد يؤدي إلى نوع من التعاطف غير التقليدي، كما في بعض مشاهد The Boys أو Deadpool.

14- ظاهرة “التعاطف مع الشيطان” (Sympathy for the Devil) :

تفسر بأننا نتعاطف مع الشخصيات الشريرة لأننا نسمح لأنفسنا بمحاكاة مشاعر مختلفة في بيئة قصصية آمنة، ما يمنحنا مسافة نفسية تمكننا من الشعور بالشفقة دون خيانة مبادئنا الحقيقية.

15- جماليات الشر والأبطال القساة:

يرى بعض الباحثين أن تصوير العنف ضمن صيغة جمالية (زوايا تصوير، نص، أداء) يخلق مدخلًا نفسيًا للاستمتاع والتعاطف، حتى مع فعل عنيف. مثال سيرسي لانستر عندما قامت بتفجير Great Sept of Baelor لأجل حماية أولادها سلطتها كان مشهد مهيب بصريًا، لكنه يمثل جريمة إبادة مذهّبة.

العناصر التقنية تلعب دورًا خفيًا لكنه فعال في صياغة مشاعر الجمهور

  • الموسيقى التصويرية: يمكن للموسيقى المؤثرة أن تخلق التعاطف مع شخصية معينة، حتى لو كانت تقوم بأفعال شنيعة.
  • التصوير السينمائي والإضاءة: زوايا الكاميرا، الإضاءة الخافتة أو الدرامية، وحتى تعابير وجه الممثل، يمكن أن تؤثر على كيفية إدراكنا للشخصية وتزيد من تعاطفنا معها. اللقطة القريبة لعيني الشرير، أو الإضاءة الدافئة في لحظة ضعفه، تخلق انطباعًا بالإنسانية.

المشاهد المسؤول بين المتعة والوعي الأخلاقي

السؤال الأهم الذي ينبغي أن يرافقنا هو:

هل نحن نفكّك الشر لفهمه؟ أم نُلبسه ثوب البطولة لنستهلكه بضمير مرتاح؟

هل نرى في هذه الشخصيات أشرارًا أم ضحايا؟ طغاة أم منقذين؟

المشكلة ليست في الأعمال الفنية ذاتها، بل في أن تُختزل هذه القصص في “تمجيد للشر” تحت شعار التعاطف أو التسلية. وهذا لا يعود إلى نوايا الكتّاب بالضرورة، فلا توجد دلائل على أن صنّاع هذه الأعمال أرادوا تمجيد الشر، بل سعوا إلى إثارة تساؤلات أخلاقية معقدة تتجاوز الأحكام المسبقة. لكن التلقي الغافل السطحي يتحول لشرعنة العنف وتجميله.

نحن مسؤولون عن كل ما نختاره أن نكونه، حتى في خيالنا

تأتي مسؤولية الجمهور. ليس كمتلقٍ سلبي، بل كشريك في صياغة المعنى الأخلاقي، وهذا لا يعني رفض التعاطف، بل التمييز الدقيق بين فهم الدوافع وتفكيكها وتبرير الفعل او تبيضه، وبين التعاطف البنّاء والتغاضي الذي يُعمي الضمير، بين الوعي والانجرار، بين الفن كأداة للارتقاء، أو تسلية تُخدر الضمير. فالتسامح مع الانتهاك، حتى عندما يُقدَّم في قالب درامي مبهر، لا يجب أن يُسقط من وعينا حقيقة الانتهاك ذاته. أن نُدرك كيف وصل الشرير إلى فعلٍ ما، لا يعني أن نقبله كخيار مشروع. مثلا يمكن أن نفهم لماذا ارتكب إيرين ييغر “دك الأرض” أو ياغمي لايت أو يوهان ليبرت أو جون سنو أو كاتنيس إيفردين، دون أن نحوله إلى منقذ أو نحتفل بخياراته. الفرق أن الفهم يُحمّل الفعل وزنه الأخلاقي، أما التبرير فيُعفيه منه.

الفن يجب أن يُعري الشر، لا أن يُغويه. وعلى المشاهد أن يتبنى موقفٍ تفاعليٍّ وناقد وليس كمستهلك عاطفي فقط. استمتع بالحبكة، انبهر بالبناء السردي، لكن لا تسمح للسرد العاطفي أو الجماليات أن تنزع عنك البوصلة الأخلاقية. واصل مساءلة دوافع الشخصيات، وحدّد الخط الفاصل بين الفعل الذي يُفهم، والشر الذي لا يُغتفر.

وفي ختام هذا الطرح، يظل السؤال مفتوحًا:

هل تعرف شخصيات خيالية نجحت في تحقيق توازن بين تعقيدها الأخلاقي وجذب الجمهور دون أن تسقط في فخ تبرير أفعالها الشريرة؟

3 صوت - التقييم 5.7