إن الدراما وفي أبسط تعريف لها هي انعكاس لمجتمعها وموطنها، لن تجد مسلسلاً برازيلياً يناقش باستفاضة أزمة وجودية تعصف في تشيلي طبعاً، فالدراما وليدة وطنها ومرآته العاكسة التي تتأثر قطعاً به وبالأوضاع التي تعصف به.
لأعوام مديدة ظلت الدراما السورية في الظلام متراجعة بشكل مؤسف حتى كدنا نفقد الأمل في عودتها إلى ألقها المعهود، وهي التي غزت العالم يوماً، لكن ولأننا محكومون بالأمل انتظرنا بصبر وعاد صبرنا بنتيجة ترضينا، لقد عادت الدراما السورية عودة أسطورية تكللت هذا العام بواحد من أفضل وأقسى وأقوى عمل درامي يمكن لك أن تطلبه مسلسل “البطل”، الذي كان تجربة درامية ووجبة دسمة من الواقع والقهر والألم، لم يكن البطل مجرد مسلسل آخر ينسى بعد بضعة أيام من انتهائه، بل كان علامة فارقة ونقلة نوعية لن تنسى في أي وقت قريب
البطل..حكاية كل بطل

على عكس معظم الأعمال السورية, لا تدور أحداث البطل في قلب العاصمة دمشق المزدحمة بالقصص والحكايات والناس، إنما تدور أحداثها في إحدى القرى الصغيرة التي يعرف فيها الجميع الجميع، قرية صغيرة فقيرة تعاني من ويلات الحرب، أهلها ينتظرون يوماً لا يخافون فيه من غدهم.
تنقلب حياة سكان القرية عقب قدوم ضيوف غير مرغوب فيهم، النازحون القادمون من قرية مجاورة هدمت على رؤوسهم ففروا منها محاولين الحفاظ على حياتهم، يستقبل مدير مدرسة القرية الأستاذ يوسف هؤلاء التعساء بقلب مفتوح مصراً على استضافتهم في المدرسة رغم الاعتراضات الكثيرة والأصوات الرافضة، إلا أن الأستاذ مصر على قراره، هؤلاء أهلنا وعلينا تقديم ما يلزم لأجلهم.
عبر ثلاثين حلقة هي عمر المسلسل، نتعرف على أبطال البطل الأستاذ يوسف مدير المدرسة وعائلته الصغيرة زوجته رانيا المهندسة الموظفة في البلدية ابنته وفخره الدكتورة مريم المخطوبة للأستاذ مروان وابنه المراهق الطائش مجد.
عائلة صغيرة بسيطة تراها في كل بيت، لكن عائلة الأستاذ يوسف ليسوا مركز الحكاية فهناك أيضا فرج الدشت، الشاب البسيط الفقير الذي أتى إلى هذا العالم موصوماً بالعار، لقد ولد فرج في السجن إذ قتلت أمه أباه قبل أن يولد حتى، وفي نظر أهل قريته فإن فرج مجرد شبح هائم بينهم لا يستحق أدنى اهتمام أو اكتراث لا أحد سوى الأستاذ يوسف عامل فرج ككائن من لحم ودم فاتحاً له قلبه وبيته.
لم ينسى العمل المهجرين طبعاً, فقدم لنا سلافة الأم البائسة المعدمة التي تناضل وحيدة في الحياة بعدما سافر زوجها واعداً إياها أن يأخذها لاحقاً إلى الأرض الجديدة كي يبدأا حياة تخلو من الموت والقنابل والغضب، كانت سلافة رمزاً لكل امرأة جار عليها الزمان محولاً إياها إلى لقمة سائغة إلى ضحية لمجتمع لا يرحم.
عبر ثلاثين حلقة شاهدنا الأبطال ينضجون, يعانون, يحاولون, جاهدين النجاة من الموت والقهر والظلم، شاهدناهم يسعون بلا كلل لأجل حياة أفضل، لأجل أحلام لربما تكون مستحيلة لكنها أحلامهم وانبغى عليهم أن يفعلوا كل ما أمكن لأجلها.
لقد أبدع الكاتب رامي كوسا في نصه الذي نقله عن الكاتب الكبير ممدوح عدوان وحكى قصة أبطالها نحن، المهمشون الساعون للنجاة في وطن ممزق مذبوح، كان البطل حكايتنا نحن خارجاً من قلوبنا كي يلج قلوبنا بلا أي استئذان.
بسام ومحمود ثنائية العام بلا منازع

لا يستقيم أي عمل درامي دون شخصيات تدعمه تشكل أساسه وعموده الفقري، هذه الشخصيات هي التي تحكي القصة وهي العامل الأول والأبرز في جذبنا إلى العمل وجعلنا منسجمين مع أحداثه.
في عمل روائي طويل ينبغي على الكاتب والمخرج التركيز على نقطتين أساسيتين تطور الشخصيات بطريقة تتلائم مع الأحداث الحاصلة، والحرص على عدم فقدان الشخصية لجوهرها الدرامي خلال تطورها.
يبرز الرائع بسام كوسا بقوة في البطل بوجهه الهادئ الودود كي يبعث الحياة في شخصية الأستاذ يوسف مدير مدرسة القرية, مرجعيتها الأولى وحاكمها غير المتوج، كلمة الأستاذ يوسف لا تكرر, وحكمه لا ينقض, وهموم “الضيعة” تثقل كاهله وترهقه لكنه سعيد بهذا, وفخور بكونه الأستاذ.
لا جدال حول موهبة بسام كوسا، هذا الرجل أثبت نفسه منذ أعوام طويلة لكنه أبدع في تجسيد التناقضات النفسية العاصفة بشخصية يوسف, خاصةً بعدما خذلته الحياة وحطمت ظهره وكبرياءه، لم يعد الأستاذ ملك قريته, فقد أصبح رجلاً مقعداً لا يقدر على دخول الصف لمنح طلابه درسهم، لا يستخدم بسام كلماته كثيراً, ملامح وجهه الكئيبة التعسة تحكي الكثير مما لا يقال، لقد كان الأستاذ يوسف واحداً من الناس, رجلاً تراه في كل مكان لربما في بيتك حتى، شخصية حقيقية ما كنا لنغرم بها لولا الأداء الحساس المفعم بالعواطف الذي منحنا إياه القدير بسام كوسا, والذي يمتلك من الموهبة والتواضع والأخلاق الفنية الرفيعة ما يجعله قادراً وراغباً في منح الممثلين الآخرين المشاركين في البطولة مساحة درامية كي يتألقوا بدورهم, خاصة محمود نصر الذي أظهر نضجاً فنياً ملموساً وجعلنا مغرمين بفرج الدشت.
لم تكن الحياة رحيمة على فرج على الإطلاق، فرج ابن سمرا القاتلة التي أنجبته في السجن، فرج الفقير المنبوذ الذي لا يكلف أحد نفسه عناء الاكتراث به، في البداية كان فرج مجرد شاب بسيط مغرم إلى حد الجنون براما التي يراه أهلها مجرد حشرة ينبغي سحقها تحت الأقدام، لا عريساً ملائماً لابنتهم، عبر حلقات المسلسل نرى فرج وهو يتحول ببطء إلى وحش، نراه يسلك طرق ملتوية لتحقيق المال والسلطة. طرقه هذه تكسبه احترام أهل القرية وولاءهم، لكنه وفي الوقت نفسه فقد احترام الرجل الوحيد الذي أحبه بعد أمه .. الأستاذ يوسف، لا نبالغ لو قلنا أن تطور شخصية فرج كان واحداً من أفضل ما رأيناه منذ أعوام، تطور سلس متقن أضاف له الأداء الرائع لمحمود نصر أبعاداً إنسانية عمقت من انسجامنا مع الشخصية.
للحظات تشعر أنك تكره فرج بشدة، تحتار عندما ترى كيف تحول الشاب البريء الطيب إلى وحش مسعور لا يهمد، لتدرك بعدها أن الحياة بقسوتها الكريهة جعلته ما هو عليه، كان احتمال وقوع محمود نصر في فخ الابتذال والإسفاف أثناء أداء الدور كبيراً لكنه نجح في تلافيه ببراعة وقدم لنا أداء لا ينسى، سيظل فرج لأعوام مرجعيتنا عند تقييم أي دور مستقبلي لمحمود نصر، لربما يكون فرج الدشت دور عمره وعلامة فارقة في مسيرته المهنية الناجحة.
يتألق الشباب بقوة في عالم البطل, فنرى نور علي التي تخلت أخيراً عن شخصية الفتاة الجميلة كي تلبس شخصية مريم ابنة الأستاذ يوسف قرة عينه ومصدر فخره الأول، مريم الرقيقة الصلبة تجسيد واقعي لكثير من الفتيات في سوريا، مغرمة بخطيبها المفلس لكنها عاجزة عن السفر معه إلى خارج البلاد والتخلي عن عائلتها الحبيبة، انقسام روحي جسدته نور علي ببراعة واضحة تشهد على نضج وتطور واضح في الأداء، كأغلب شخصيات العمل, لا ترحم الحياة مريم للحظة، تضعها دائماً على مفترق طرق، ترغمها على اتخاذ قرارات مجحفة في حق نفسها، عبر ثلاثين حلقة نضجت مريم أمام أعيننا وتحولت من فتاة تتألق من السعادة إلى شبح معذب أرهقه الخذلان والحرب والموت، كانت مريم ضحية ككثيرات غيرها، ضحية الزمن والحرب وضحية الحب.

فيما جسد خالد شباط الذي عرفناه مراراً في المسلسلات المعربة دور الأستاذ مروان خطيب مريم في نقلة واضحة لمسيرته المهنية، لو كانت مريم تجسيداً لفتيات سوريا فإن مروان كان تجسيداً لشبابها، أولئك الشباب الذين رأوا في الهجرة الطريق الوحيد لتحقيق أحلامهم وسعادتهم، كان مروان في حرب دائمة مع عائلة مريم. أداء خالد شباط جعلنا نستشعر غيرته منهم, ورغبته الكامنة في أخذها بعيداً عنهم, في الخروج من بلاد حُكمت بالموت والدم، كان مروان حقيقياً على أكثر من صعيد، وانتهت قصته نهاية مؤلمة في واقعيتها.
أما وسام رضا فقد أثبت أن فرخ البط عوام, مقدماً أداءً لطيفاً بدور مجد ابن الأستاذ يوسف الأصغر المراهق الطائش الذي يشعر دوماً أنه قابع في ظلال أخته، مجد هو الآخر شخصية واقعية للغاية، عبر حلقات العمل يتحول مجد من مراهق مشاكس إلى مشروع مجرم بسبب تلك الرغبة الكاسحة الجامحة في الكسب السريع التي تقطن روح أغلب الشباب.
شكل وسام رضا ثنائية لطيفة مع نانسي خوري التي أطلت علينا بوجه شاحب مرهق أسقمه الفقر, كي تنقل لنا معاناة المهجرين المرغمين على هجران بيوتهم وقراهم وأحلامهم, سعياً نحو حياة أفضل ! فكانت هي سلافة الأم البائسة المعدمة التي لا تجد القدرة على إرضاع طفلها المسكين حتى.
كانت سلافة نسمة عليلة في حياة عائلة الأستاذ يوسف, رغم فقرها وبؤسها إلا أنها كانت أختاً لمريم, سنداً لا يميل لمجد الذي وجد فيها ملجأً له ولعواطفه الساذجة المتأججة، رغم فقرها وبؤسها لم ترحم القرية سلافة للحظة، وظلت حتى آخر ثانية مثار شكوك وثرثرات واشاعات نالت منها ومن سمعتها وشرفها، لم يمنحنا العمل نهاية واضحة لسلافة، ما الذي حل بها ! هل ابتلعها البحر ككثير من المهاجرين؟ أم أنها نجت بحياتها وطفلها وأسست لنفسها حياة كريمة لطالما تاقت لها؟ يترك المسلسل العنان لخيالنا مفضلاً ألا يروي فضولنا بإجابة شافية واضحة، جاعلاً من سلافة رمزاً لكل الحالمين الذين غامروا بأرواحهم لأجل الحرية والكرامة.
لقد امتلك البطل طاقم تمثيلي يليق به، طاقم أدرك ثقل المسؤولية وأبدع في تقديم أداء تمثيلي يليق بهذه الحكاية, أداء ما كنا لنراه لولا إدارة حازمة إبداعية من مخرج موهوب متفرد هو الليث حجو.
صورة الليث حجو بألف كلمة
الليث ليس مخرجاً مبتدئاً بأي حال، هذا الرجل أضحكنا حتى دمعت عيوننا في ضيعة ضايعة, وأحرق قلوبنا ألماً في الندم، واليوم يعود الليث كي يحكي حكايتنا, كي يروي آلامنا ويغوص في معاناتنا موثقاً مرحلة حرجة من تاريخنا.
أول ما يلفت الأنظار في البطل هو الاستخدام المكثف للألوان الترابية الداكنة التي تنبئ منذ أول لقطة بالألم والقهر الذي ينتظرنا، تخترق كاميرا الليث حجو ظلمات عالم القرية الصغيرة مستعرضاً بلا رحمة تفاصيل تؤلم في واقعيتها، البيوت المجللة ابداً بالظلام بسبب غياب الكهرباء المستمر، الفقر والبؤس المنطبع بقسوة على وجوه أهل القرية والمهجرين على حد سواء، ملابس فرج الممزقة المهترئة من كثرة الاستخدام ملابس تصبح أكثر جودة ومتانة مع بلوغ فرج الثراء الذي أعماه، ساعة الأستاذ يوسف الأثرية التي تتوقف لحظة جلوسه قعيد الكرسي كأنما توقف به الزمن بعيد سقوطه، تفاصيل كثيرة تختزل كلاماً طويلاً وحوارات كان وجودها ليقلل من سحر العمل، يقال أن الصورة بألف كلمة ويبدو أن الليث حجو يعتنق هذا المبدأ بتصميم لا هوادة فيه.
لا غلطة في الصورة التي منحها لنا الليث, كل لقطة تروي حكايتها الخاصة, الألوان تحكي قصة خاصة بها، لن ترى في هذا العمل ألواناً زاهية صارخة بالحياة, بل فقط ألوان النيران الشرسة التي التهمت القرية وأحلام أهلها في لحظة، الألوان تعكس حالة الخوف الموت والدمار، الموسيقى التصويرية تتركز على أصوات الرصاص والانفجارات المتناوبة بين البعد والقرب، الخوف يحكم كل لقطة منذ البداية وحتى النهاية التي حملت الفرح بذلك الأمل الواهي الذي ظنناه في البدء مستحيلاً.
لقد روى الليث حجو حكايتنا بقسوة لا ترحم، وقدم لأجلنا عملاً يخلّد ألمنا وقهرنا وعذابنا الذي استمر لـ 14 عاماً مريرة، البطل ليس مجرد عمل درامي آخر تنساه بعد انتهائه، إنه توثيق دقيق حساس لماضينا وحاضرنا، حكاية أبطالها مثلنا ! خارجون من عالمنا وواقعنا إنهم تجسيد لنا إنهم منا وفينا، لن نبالغ إطلاقاً لو قلنا أن البطل هو تتويج لمسيرة الليث حجو كمخرج، لأعوام قادمة سيظل البطل هناك .. يذكرنا أننا تجرأنا على الحلم يوماً ونلنا الكرامة بعد طول عناء.
لن ينسى البطل في أي وقت قريب، سنذكره مراراً وتكراراً وسيكون تحدياً وعقبة قاسية أمام أي عمل مستقبلي قادم، لقد أثبت رامي كوسا والليث حجو أن الدراما السورية ولّادة لا تموت، وأن ما مرت به في الأعوام الفائتة كان كبوة قاسية, آن أوان الاستيقاظ منها، لربما كان البطل قاسياً علينا كمشاهدين، لكنه كان انعكاساً للحياة بقسوتها وبؤسها وأملها في آن، كان عملاً صُنع كي يخلد طوال الزمان.
MUSIC CREDIT : Al BATAL by Allaith Hajjo END CREDITS Composed & Orchestrated by Suad Bushnaq Vocals: Carmen Tockmaji Clarinet: Mohamed Najem Accordion: Wessam AlChaaer Cello: Ahmad Taha Qanun: Sherif Kamel Strings: Budapest Scoring Orchestra – Conducted by Zoltán Pad Recording, Mixing, & Mastering by Hazem Jabbour – GAIA STUDIOS DUBAI

Movie Critic
1 Comment
Comments are closed.