دائماً ما تُعرف السينما على أنها سابع الفنون وختامها، لقد نجحت السينما في مزج كل أنواع الفنون الأخرى في مزيج واحد مفعم بالخيال والإثارة والحب, فقط السينما تستطيع جعل الحلم حقيقة، لكن سحر السينما لا يكتمل بدون أكثر فنون البشرية رقة وسحراً وخلوداً الموسيقى، لو كان هناك سحر في هذا العالم لكانت الموسيقى برهانه، إن الموسيقى هي فن خلق الحياة، الموسيقى تخلب الألباب وتخترق أشد الأرواح قسوة وتنثر ذلك الرونق الحالم بلا حساب، إن الموسيقى سلاح معتمد حتى في الحروب لكنها وعندما تلج إلى السينما أو المسرح تتحول إلى عامل أساسي لا غنى عنه، لا عجب في أن برودواي لا يزال صامداً بقوة وعنفوان أمام السيطرة السينمائية الكاسحة فلولا الموسيقى التي بني على أساسها لربما كان قد رحل طي النسيان منذ قرون.
عادة ما يتم معاملة الأفلام الموسيقية بحذر وترقب فتحويل الحوارات إلى أغان ورقصات واستعراضات هو أمر يستلزم قدراً وافراً من المخاطرة والدقة كي تتناغم الأغاني مع الأحداث وتمنح المشاهد القدرة على التفاعل معها، بعض الأفلام الموسيقية نجحت في التحول إلى أيقونات سينمائية موسيقية وبعضها رحل طي النسيان بسبب إهمال صناعه للتفاصيل الدقيقة التي كان بإمكانها جعله مميزاً، فكيف لو كان الفيلم نسخة سينمائية من أكثر المسرحيات الموسيقية شهرة وشعبية، هذه المخاطرة خاضتها “فيليدا لويد” بشجاعة تحسد عليها عندما قررت تحويل مسرحية Mamma Mia! فائقة الشهرة إلى فيلم كوميدي رومانسي موسيقي ذلك عام 2008 بطاقم تمثيلي يضم مجموعة من أفضل ممثلي السينما وأبعدهم عن عالم الغناء أيضاً
لم يكن ماما ميا مجرد فيلم موسيقى عادي بأغان لطيفة ورقصات خرقاء بل كان عملاً صاخباً بالحياة والألوان والفرح والقليل من الدراما اللطيفة، يروي الفيلم قصة “صوفي” الفتاة الجميلة الشابة التي نالت حصة مضاعفة من الحب أثناء نشأتها في جزيرة كالوكايري اليونانية الجميلة، لقد وجدت صوفي حب حياتها في وقت مبكر، إنها جاهزة تماماً للزواج من حبيبها “سكاي” لكن هناك عائقاً صغيراً يشكل فجوة وجودية في عالمها المثالي الجميل أبوها
لم تعرف صوفي لنفسها أباً، فقد عاشت حياتها أسيرة جزيرتها وحكايات أمها المبهمة عن أن أباها كان مجرد علاقة صيف عابرة، لكن صوفي الخبيثة تكتشف دفتراً قديماً دونت فيه أمها دونا شيريدان مذكراتها عن تلك الفترة الطائشة في حياتها الصاخبة، لذا تقرر صوفي دعوة الرجال الثلاثة الذين ذكروا في المذكرات إلى زفافها المهندس المعماري الأمريكي سام كارمايكل كاتب الرحلات السويدي بيل أندرسون والمصرفي البريطاني هاري برايت فهي واثقة أن واحداً منهم هو والدها البيولوجي لتبدأ في رحلة اكتشاف وجودية لذاتها بخلفية موسيقية شكلت هوية الفيلم الأساسية.
لم يفتقد العمل إلى المرح والسعادة بأي حال لكنه افتقد ذلك العمق العاطفي الضروري لسير القصة، فرغم أنه يرتكز على الأزمة الوجودية التي تعاني منها صوفي طوال حياتها إلا أنه لم يكترث كثيراً للتركيز عليها بقدر ما صب تركيزه على العنصر الموسيقي، لقد كان الفيلم جرعة غير متوازنة من البهجة الجنونية والألوان الصارخة والأغاني المرحة والرقصات الغريبة الأشبه بالتمارين الرياضية التي احتوتها الطبيعة اليونانية الخلابة حتى أن الفيلم في بعض مشاهده بدا أشبه بإعلان سياحي للجزر اليونانية، ولعل هذا ما أثار سخطاً نقدياً واضحاً على الفيلم فتوالت الاتهامات بالسطحية وعدم استثمار الموسيقى كما يلزم والبعد عن الإتقان، لكن هل ينبغي لكل فيلم أن يجعلنا نذرف دموعاً غزيرة أو تتمزق قلوبنا من الأسى بسببه كي يكون ناجحاً؟ لا أعتقد يمكن لفيلم أن يكون رائعاً للغاية فقط لأنه جعلنا ولو لساعات معدودة نستشعر أملاً بالحياة.
في الواقع من الغريب أن أغلب الانتقادات توجهت نحو الأداء التمثيلي والغنائي خاصة أداء الأسطورة الهوليوودية “ميريل ستريب” التي كانت حسب بعض النقاد أكبر سناً من أن ترقص بمرح لتسعين دقيقة، أما “بيرس بروسنان” الوسيم فقد نال انتقادات أشد قسوة ووصف غناؤه بألفاظ قاسية مهينة أحياناً، لربما لم يستطع بروسنان أن يتحول بين ليلة وضحاها إلى باڤاروتي لكنه والحق يقال أضفى رونقاً من نوع خاص على أحداث الفيلم اللطيف، كما أن ثلاثي المسرح المتمثل بميريل ستريب جولي والترز وكريستين بارانسكي قام بعمل جيد حقاً وأعطى الفيلم جرعة لطيفة من الحب والحيوية التي لا تعرف عمراً، أما نجمة الفيلم الحقيقية فقد كانت أماندا سيفريد الموهوبة بشكل لا يصدق، بصوتها الرنان الحالم وحضورها اللطيف كانت أماندا نسمة لطيفة أضافت سحر الشباب المحبب والضروري إلى فيلم مصنوع في الأساس ليمنحنا السعادة والبهجة والأمل.
لقد امتلك ماما ميا سحراً خاصاً به سحراً فريداً من نوعه يصعب ألا يعديك بالسعادة والبهجة، لا مكان للحزن والألم في تلك الجزيرة الخارجة من عالم الأساطير فالبهجة هو الشعور الأقوى والأبرز، هذا الفيلم ليس فيلماً درامياً عن فتاة تبحث عن أبيها المجهول إنه أغنية طويلة فيلم سعيد مرح راقص سخيف نوعاً ما، إنه فيلم تستمتع به عندما ترى أن الحياة أصبحت لا تطاق عندما ترغب في قليل من الابتذال والموسيقى الرائعة والحيوية الدافقة الأبعد ما يمكن عن الهموم والمعاناة، لكن هناك عاملاً أساسياً يجعل الفيلم ممتعاً على المستوى الموسيقي خاصة، فماما ميا استوحي في الأصل من أغاني واحدة من أفضل فرق البوب في العالم, الفرقة التي غيرت وجه الموسيقى إلى الأبد فرقة Abba والتي شاركت إحدى عضواتها “بيني أندرسون” في كتابة بعض الأغاني فيه.
انطلق الفيلم بواحدة من أفضل أغاني آبا وأكثرها شعبية أغنية Honey, Honey المحملة ببهجة السبعينات الحالمة والتي أغناها الصوت الرقيق لأماندا سيفريد إذ تناغمت الأغنية ببراعة مع الأجواء الرومانسية والطبيعة الخلابة للجزيرة الصغيرة الساحرة، توالت أغاني آبا الرائعة التي حفرت في أعماق كل من استمع يوماً للفرقة الشهيرة خاصة أغنية Mamma Mia! التي سمي الفيلم تيمناً بها والتي أدتها ميريل ستريب بحيوية وشغف لم يغب يوماً عن الممثلة التي غيرت وجه السينما منذ ظهورها الأول منذ عقود طويلة مبرهنة أنها نجمة شاملة قادرة على فعل الكثير، أما أغنية Slipping Through My Fingers فقد احتوت سحراً حقيقياً يشهد على الكيمياء اللطيفة التي خلقها تعاون الممثلتين اللتين كانتا أماً وابنة بحق وامتلكتا ذلك التناغم المحبب المتوقع منهما.
ويبدو أن أغنية SOS كانت أكثر ما أثار غضب النقاد فالأغنية تعتبر من أشهر أغاني آبا وأكثرها شعبية لكن بيرس بروسنان ورغم وسامته وحضوره الطاغي إلا أنه كان فاشلاً بشكل مؤلم في أداء الأغنية وبدت المعاناة جلية على وجهه الوسيم على عكس ميريل التي تألقت في كل أغنية أدتها وبدت مرتاحة للغاية في أدائها، يمكن القول بسهولة أن وجودها إضافة إلى أماندا سيفريد كان أفضل ما في الفيلم ومنبع البهجة الحقيقي فيه
لقد كان ماما ميا بمجمله تحية حب وإجلال لواحدة من أفضل الفرق الموسيقية في العالم، لربما لم يكن مثالياً وافتقر بعضاً من العناصر التي كانت لترفع منه كالعمق الدرامي والتركيز البصري والممثلين القادرين على الغناء بحق لكنه وفي النهاية فيلم مبهج مرح بجرعات مكثفة من السعادة والنوستالجيا التي نجحت الموسيقى الرائعة في خلقها في عقل كل من شاهد الفيلم، قد لا تحب ماما ميا لكن من الصعب بحق تجاوز سحره أو المتعة الرائعة التي يمنحها لك ويزرعها في داخل قلبك
MUSIC CREDIT : Provided to YouTube by Universal Music Group Honey, Honey (From ‘Mamma Mia!’ Original Motion Picture Soundtrack) · Amanda Seyfried · Ashley Lilley · Rachel McDowall Mamma Mia! The Movie Soundtrack ℗ A Polydor Records recording; ℗ 2008 Littlestar Services Limited, under exclusive licence to Universal Music Operations Limited Released on: 2008-01-01
Movie Critic