“من لا يملك الشجاعة ليقول ما يفكر به، لن يملك يوماً القدرة على أن يكون حراً” – سقراط
منذ ظهوره الأول أثبت يورغوس لانثيموس أنه جاء كي يغير درب السينما ويخلق خطاً جديداً خاصاً به، مبرهناً مرات عديدة أنه خط ناجح بتفرده، خاصةً أنه تعاون مراراً مع ممثلة ذكية استثنائية الموهبة هي إيما ستون، كي تكون شريكته الأمينة في النجاح والتميز.
يعود لانثيموس مجدداً هذا العام رفقة نجمته الأثيرة، مخترقاً عالماً لم يسبق له أن وطأه قبلاً، عالم نظريات المؤامرة، والذي شكل حجر الأساس في أحدث أفلامه Bugonia.
تعود جذور اسم الفيلم إلى الأساطير اليونانية التي تتحدث عن النحل الذي خُلق من جثة ثور، لقد عاد لانثيموس إلى أصوله اليونانية، مصطحباً إيانا في رحلة عبثية تجمع الكوميديا السوداء بنظريات المؤامرة بالخيال العلمي، في مزيج لا يقدر عليه إلا يورغوس لانثيموس.

يروي الفيلم، المقتبس من الفيلم الكوري Save The Green Planet حكاية تيدي مربي النحل الذي أغرقت نظريات المؤامرة عقله حتى صار أسيراً لها. بمساعدة ابن عمه بسيط العقل دون، يقرر تيدي اختطاف ميشيل فولر، الرئيسة التنفيذية للشركة العملاقة متعددة الجنسيات “أكسوليث”.
يعتقد تيدي بشكل غير قابل للنقاش أن ميشيل كائناً فضائياً خبيثاً قادماً من أندروميدا هدفه قتل النحل وتدمير المجتمعات وإرغام البشر على الخضوع التام.
يحلق تيدي ودون شعر ميشيل ويغطيان جسدها بكريم مضاد للهيستامين لمنعها من إرسال إشارة استغاثة لرفاقها الفضائيين، لتجد المديرة التنفيذية الصلبة نفسها في موقف لم يخطر على عقلها حتى في أكثر أحلامها جموحاً.
منذ انطلاق مشاهده الأولى يظهر الفيلم أنه ليس مجرد عملاً آخر عن نظريات المؤامرة وجنونها، إنه عملاً عبثياً بسرد ملتواً تتصاعد فيه الأحداث باضطراد متسارع. يظهر الفيلم حبكته بشكل دائري ملتواً كالافكار التي قد تدور في ذهن إنسان يلاحق الدوافع ويغوص في قلب النفوس.
يعتمد الفيلم على نبرة ساخرة سوداوية لا تهادن، كي يهاجم مجتمعاً التهمته الرأسمالية حتى النخاع، مجتمعاً حوّل العالم بأسره إلى خلية نحل عملاقة، قيمتك فيه تتعلق بجهدك المبذول لا بقيمتك كإنسان من لحم ودم. ناسجاً نقده الاجتماعي من خيوط عبثيته، يستكشف العمل عالماً فقد قدرته على رؤية الحقيقة واستسلم للنسخة المتوفرة منه، إنه عملاً غريباً، متشعباً، إنما ممتعاً وجذاباً بشكل لا يصدق.

على صعيد الشخصيات، وبشكل غير متوقع، كانت شخوص الفيلم سطحية أحادية البعد. لكن، وعوضاً عن أن تكون هذه نقطة ضعف تُسقط العمل بأكمله، جاءت كي تكون أبرز ما فيه، إنهم رموز، أمثلة.
الشخصيات قليلة ومحدودة، تيدي المؤمن بلا ريبة بنظرياته الجنونية، دون البريء الساذج الأشبه بطفل مضطهد، وميشيل التي يمكن أن تكون محور الشر الأساسي في أي قصة أخرى إلا في بوغونيا.
لا يكترث الفيلم بتعميق الشخصيات بقدر ما يكترث برمزيتها، عاكساً الأدوار المفروضة عليها، تيدي الفقير البسيط رمز للإنسان التائهاً المشتت، الذي يجد في نظريات المؤامرة مهرباً وتفسيراً مريحاً لمدى البؤس الذي بلغته حياته التعيسة.

أما ميشيل فقد كانت نقيضه المطلق، إنها ثرية، ناجحة، قوية، نسخة أنثوية أكثر أناقة من إيلون ماسك ومارك زوكربيرغ، رمز لا تتوه عنه للرأسمالية بكل قبحها، تحت وجهها الجميل الشاب تخفي ميشيل بروداً ثلجياً قادماً من القطب وقسوة شرسة تغلفها بالقدر الملائم من اللباقة واللطف.
لكن في بوغونيا تتحول ميشيل إلى ضحية لا حول لها ولا قوة أمام اختلال تيدي، الذي يجد نفسه ولمرة في حياته قادراً على السيطرة. أما دون فكان نسمة لطيفة عابرة في أجواء الفيلم الكالحة السوداوية، إنه مشاهداً بريئاً لا يملك إلا أن ينفذ، عقله البسيط عاجز عن التفرقة بين الواقع والخيال، يتبع ابن عمه الذي يحبه كأنما هو منارته التي تهديه عبر ظلمات محيط الحياة.

ولابد من طاقم تمثيل مذهلاً قادراً على حمل ثقل هذه الشخوص المتناثرة لذا، وللمرة الرابعة، عادت إيما ستون كي تكون نجمة يورغوس الأثيرة، إن التفاهم بينهما مطلق، يورغوس قادراً على استخراج ملكات تمثيلية مذهلة من داخل إيما، ملكات أوصلتها إلى الأوسكار عن فيلم Poor Things ولأجل بوغونيا حلقت إيما شعر رأسها بالكامل، لربما لم تكن أول ممثلة تفعلها، لكنها غالباً كانت أول من جعل من الرأس الحليق دعاية رسمية ملهمة للعمل. في بوغونيا تجسد إيما دور ميشيل فولر، امرأة من حديد، ناجحة ذلك النجاح الرأسمالي الخالي من الروح. إنها أنيقة، باردة، ذكية، تحت ابتسامتها المعسولة تتخفى امرأة شرسة لا تجد غضاضة في فعل كل شيء وأي شيء لأجل الحفاظ على النجاح الهائل ونمط الحياة المرفهة الذي نالته بجهدها.

تكمن براعة إيما ستون كممثلة في قدرتها الفائقة على تطويع ملامح وجهها، عيناها الواسعتان نافذتان لروح الشخصية. كميشيل تراوحت ملامحها بين البرود الثلجي والخوف المتوحش الذي يرافق إدراك أن خاطفك لن يتجاوب بالحوار المنمق معك.
لكن مفاجأة الفيلم الحقيقية كان جيسي بليمونز، بشعره الأشعث وجسده الهزيل المغطى بالملابس الرثة المبقعة، يذهلنا جيسي بتجسيد مقلق لدور تيدي، إنه شخصاً مختلاً مضطرباً أرهقته الحياة ورمت عليه أثقالاً ينوء تحت وطأتها.
بذكاء يُحسب له تفادى جيسي فخ الابتذال والتقليدية، فلم يكن تيدي مجرد رجلاً مهلهلاً أسقمت المؤامرات عقله، بل كان هادئاً مريباً، أما الأكثر إثارة للرعب فقد كان إيمانه المطلق بأن ميشيل كائناً فضائياً ولا سبيل لإقناعه بغير ذلك.
فيما كان إيدن ديلبيس ساحراً محبباً بدور دون، المنقاد بلا إرادة وراء ابن عمه، دون كان روح الطفولة في عالم بوغونيا الكالح، بجسده الممتلئ وملامحه الطفولية، نجح ديلبيس في منح الأحداث دفقة محببة من البراءة.
لا ريب أن لانثيموس مخرج متفرد، وكاميرته دليلاً ملموساً على تفرده، إنها أكثر من مجرد آلة لالتقاط الصور، بل هي جزءاً من الحكاية، راوي لا تسمعه لكنك تراه وتعيش الأحداث من خلاله.

الألوان جزءاً من نسيج العمل، تتناقض بتناقض العالمين، فنرى عالم ميشيل هندسي التفاصيل، نظيفاً معقماً بارداً يخلو من أي روح، يتناقض بشكل واضح مع عالم تيدي المضطرب الفوضوي بألوانه الدافئة المغلفة بالظلال، أماكن التصوير قليلة معدودة لكنها جزءاً لا يتجزأ من نسيج الحكاية.
يعتمد لانثيموس على زوايا التصوير المختلفة لخلق عامل الجذب. فنرى كادرات واسعة بعيدة المدى حيناً، وزوايا تصويرية قريبة تستكشف ملامح الوجوه حيناً آخر، الموسيقى أيضاً جزءاً أساسياً من التجربة، تصمت تماماً في لحظات معينة، فيما تصدح بصخب كي تمنح المشهد أيقونية يصعب تجاهلها وتخلق تجربة سينمائية لا تفوت.
بكثافة يطرح الفيلم تساؤلاً فلسفياً لم يُطرح من قبل، ما الذي يجعل التفكير بأن هذا العالم تحكمه قوى خفية جذاباً؟
يقدم الفيلم نظرته الخاصة تجاه هذا التساؤل، فالاعتقاد أن هناك من يتحكم بنا يمنح راحة ذهنية هائلة، حتى لو كان المتحكم شريراً بغيضاً، فحينها سيكون هناك معنى ما لحقيقة قسوة هذا العالم.
وهنا يكمن ذكاء لانثيموس، فالفيلم لا يكترث بكشف المؤامرة بقدر ما يكشف حاجتنا الدائمة لخلقها، فبوغونيا فيلم عن الإنسان، عن هشاشته، ورغبته الدائمة في إيجاد الاطمئنان.
في بوغونيا عاد يورغوس لانثيموس إلى جذوره اليونانية والسينمائية، مقدماً عملاً عبثياً يثير التساؤل القلق، عملاً يرسخ الروح الكوميدية السوداوية التي دائماً ما جعلت من لانثيموس مخرجاً متفرداً لا مثيل له.
إن بوغونيا فيلم لا تراه بل تعيشه، يخترق عقلك بسلاسة، يتركك تائهاً حائراً، يبتسم بخبث حينما يراك عاجزاً عن إيجاد جواب شافي، بوغونيا فيلم جاء كي يبقى، ويشهد أن السينما لا تزال قادرة على سحرنا وتقديم أعمالاً نعجز عن نسيانها.

Movie Critic
