فيلم Brutalist تحفة سينمائية نادرة تستحق التأمل

أن تترك بيتك أرضك وديارك، أن تستقل سفينة أو قطاراً أو طائرة وترحل عن وطنك بلا عودة، لا تجربة تفوق قسوة هذه التجربة، عبر التاريخ عانى الملايين ولا يزال الملايين غيرهم يعانون من الهجرة والمنفى، من وحي هذه التجربة المؤلمة يأخذنا فيلم “المتوحش” في رحلة إنسانية قاسية لنتعرف فيها على حكاية “لازلو توت” المهندس المعماري اليهودي الذي نجا بشق الأنفس من الهولوكوست كي يلجأ إلى أرض الميعاد أميركا، حاملاً معه الحلم والذكريات والألم، أقل وصف يمكن إطلاقه على هذا الفيلم هو أنه كان تحفة سينمائية مجللة بآلام أولئك الساعين بلا هوادة وراء الحلم.

ينطلق الفيلم انطلاقة تنبئ بالعظمة التي تنتظرنا، لعلها واحدة من أعظم الافتتاحيات السينمائية التي رأيتها منذ أعوام، ظلام كالح قاتم يثير الحيرة في نفوسنا لا نعرف ما الذي ينتظرنا بعد، فجأة يخرج رجل من قلب ظلام الأرض، تتعقبه الكاميرا بحركة سلسلة لنكتشف بعد لحظة أن هذا الظلام ما هو إلا قلب سفينة محملة بالمهاجرين البؤساء اللذين وصلوا إلى أميركا أرض الأحلام والفرص الجديدة كما قيل لهم.

أول مشهد تراه أعيننا هو تمثال الحرية لكنه مقلوب كرمزية تؤسس للزاوية التي ستروى بها الأحداث التي تستغرق ثلاث ساعات ونصف الساعة، الأحداث التي ستوثق نصف قرن من سيرة إنسان تجرأ على الحلم، عندما شاهدت هذا المشهد أول مرة سرعان ما تذكرت المشهد الأيقوني لتمثال الحرية ذو وجه الغانية القبيحة الذي أبدعه المخرج الأسطوري يوسف شاهين في تحفته اسكندرية نيويورك، يبدو أن كلا العملين يشتركان في وجهة نظر واحدة، أميركا رائعة جميلة لمن ترغب في وجوده فقط.

سرعان ما نتعرف على بطل الحكاية، بوجه مرهق, يولد “لازلو توت” من قلب السفينة مهاجراً مجرياً يهودياً معدماً ناجياً من المحرقة التي فتكت بشعبه، لقد ترك خلفه زوجته وقريبته غير عالم إن كانتا على قيد الحياة، جاء حاملاً أحلامه مع أحلامهم إلى الأرض الجديدة. ككل مهاجر آخر يحاول لازلو أن يجد لنفسه موطئ قدم في أرض الفرص مدركاً أن أميركا ليست جمعية خيرية كما روّج لها، إنما تلتقط الأكثر قدرة وموهبة مانحة إياهم فرصة ثانية كي يكونو جزءاً منها، تاركة الآخرين لرحمة الشوارع والحظ، يقيم لازلو مع ابن عمه “أتيلا” في فيلادلفيا محاولاً البحث عن عمل في المجال الذي دائماً ما أبدع فيه في وطنه, العمارة.

لا ترحم الغربة لازلو بأي حال، إنه غريب في أرض غريبة واحد من أولئك المنسيين، لا أحد يكترث لموهبته الأسطورية لكن وبمحض الصدفة وبعد عناء رهيب يتعرف لازلو على الصناعي فاحش الثراء “هاريسون لي فان بورين” بعد أن أنهكه الفقر والإدمان، فيطلب إليه فان بورين بناء مركز مجتمعي ضخم يضم مكتبة ومسرحاً وصالة رياضية وكنيسة أيضاً تكريماً لأمه الراحلة, بعدما علم أن لازلو كان معمارياً بارعاً للغاية في أوروبا، لقد انتقل لازلو من جحيم الحرب إلى جحيم الرأسمالية وعليه -إن أراد أن يبني لنفسه حياة هنا- أن يواجه تحديات مجتمعية وسياسية وإنسانية شديدة التعقيد والقسوة

يسرد الفيلم قصته بتمهل وروية بسرد بطيء متقن لا تلاعب فيه, يجمع بذكاء بين الواقع والرمز، تتداخل الأحداث بين الحاضر والماضي حيث يستعرض الفيلم ماضي لازلو عن طريق مجموعة من الرسائل المتبادلة بينه وبين زوجته، تداخل يعكس التمزق الروحي والصراع الدائم الذي يعيشه لازلو بين ماض مؤلم ومستقبل مجهول، يأخذ الفيلم وقته كاملاً كي يروي القصة بإيقاع بطيء يتيح للمشاهد استيعاب ما يحدث بهدوء بلا عجلة.

إنه ليس عملاً عن المحرقة أو الحرب، إنه قصة إنسانية عن مهاجر هائم مشتت بين أحلامه وواقعه وطنه ومنفاه، إنه رؤية فلسفية عميقة عن الطموح الحلم القلق من الفناء والرغبة الجامحة في أن تترك للعالم شيئاً يذكّره أنك عشت يوماً على هذه الأرض الرغبة التي قد تنقلب لعنة تدمر البقية الباقية من حياتك البائسة.

كعمل يروي قصة مهندس معماري، كانت الهوية البصرية للفيلم واحدة من أبرز عوامل قوته، لقد استطاع “برايدي كوربيت” أن يخلق عالماً متكاملاً يجسد أميركا عقب الحرب، عندما كانت وجهة الأحلام وأرض الميعاد الملابس الأبنية وحتى الشوارع.

اعتمدت الهوية البصرية للعمل على نمط العمارة الوحشية التي استمد الفيلم اسمه منها كرمزية تعكس حقيقة شخصياته, تلك الأبنية الخرسانية القاسية بخطوطها وأشكالها الحادة الصلبة، الظلال تتراوح بين الرمادي والأزرق البارد كانعكاس صادق للكآبة والألم مع ومضات من نور الصباح الخافت كدفقة أمل لا غنى عنها.

كانت حركة الكاميرا وفي كثير من المشاهد بطيئة ثابتة تدعونا كي نغوص مع لازلو في عالمه الوحشي في أحلامه الشاسعة وسلاسل ماضيه الأسود.

امتلك كوربيت تحكماً جيداً بأدواته كمخرج, ونجح في نسج حكاية متينة مؤثرة مستغلاً كل دقيقة من دقائق الفيلم التي وصلت إلى 220 دقيقة تقريباً, محافظاً على رتم متمكن وسرد يتقافز بين الصمت المجلل بالقلق والعاطفة المشحونة بالآمال المستحيلة.

يستحيل أن نواصل الكلام عن الفيلم دون التطرق إلى أفضل ما فيه، إلى الأداء الخرافي المذهل “لإدريان برودي” لقد قدم أداء يليق بتاريخه كأصغر ممثل يفوز بجائزة الأوسكار, وجسد شخصية لازلو توت بشراسة وشغف لا تهاون فيه، لم تكن شخصية لازلو بسيطة بأي حال من الأحوال, إنه رجل منقسم على ذاته، أسير لأثقال ماض يرفض التخلي عنه، منفصل عن حاضر لا يرضيه، غارق في أحلام وطموحات لا تعرف حدوداً ولا أسوار، لربما تكون ملامح وجه برودي هي السبب الأساسي في كونه ممثلاً أسطورياً, ملامحه تنجح في تجسيد الألم كما ينبغي له أن يكون، كانت ملامح لازلو كئيبة كالحة، وجه طويل غارق في الألم, عيناه تروي الكثير, صمته محمل بصرخات الأسر والحلم بالحرية الموعودة، لقد أتقن برودي تجسيد شخصية رجل غارق في التوتر والصراع الداخلي, تعابير وجهه تتناوب بين هدوء قاتل وعواطف مستعرة جعلتنا ندرك بسهولة ذلك الشعور الطاغي, على لازلو التناقض ما بين طموح عملاق وشعور أبدي بالضعف والهزيمة بسبب حقيقة أنه مجرد مهاجر بائس آخر، لم تكن كلماته فقط تتحدث فنظراته وصمته كانا أبلغ من أي كلام، لم يكن لازلو يبني المجمع بل كان يبني نفسه أيضاً من الصفر، عبر ساعات الفيلم نشهد بأعيننا لازلو وهو ينضج ويكبر، آلامه تكبر معه ذلك المبنى الخرساني الصلب هو لازلو نفسه الذي صمد في وجه الحرب والمحرقة، لم يكن لازلو بصلابة مبناه قطعاً والفضل لأداء برودي في جعلنا ندرك هذه الحقيقة، إنه مشتت مدمن على المخدرات، رجل محطم مكسور، لكنه عندما يسير في أروقه بنائه يتحول إلى نقيض لنفسه، لعله أفضل أدوار إدريان برودي على الإطلاق, إنه دور العمر، لم يكن برودي يمثل هنا بل كان يقدم أداء لا ينسى مستحضراً مستويات لم نتخيل قدرته على خلقها من العاطفة والتعقيد النفسي، أداء لربما يكسبه أوسكار ثانية ستكون مستحقة بما لا يقبل الشك.

على الجانب الآخر نجد الرائعة “فيليستي جونز” ذات الأداء العاطفي المذهل لدور “إيريزبيت توت” زوجة لازلو المقعدة التي أفقدتها الحرب الكثير، كان وجود فيليستي إضافة عاطفية كبيرة للقصة، إذ أنها قدمت دور إيريزبيت بطريقة نابضة بالحياة، رغم كونها مقعدة بألم لا نهاية له إلا أن إيريزبيت كانت قوية أكثر من زوجها، لقد عانت في المنفى مثلما عانى تماماً لكنها كانت دائماً هناك كتفاً صلباً يدعم لازلو في لحظات انهياره، لم تحتج إيريزبيت لقول الكثير فصمتها وعيناها نقلت الكثير من مشاعر القلق الحب والخوف، بكيمياء لطيفة وانسجام مطلق شكلت فيليستي ثنائية لا تقاوم مع برودي، الأمر الذي أضاف أبعاداً جديدة للقصة، لم تكن إيريزبيت مجرد شخصية مساندة والفضل لجونز التي ارتقت في أدائها لجعلها أكثر من مجرد زوجة طيبة، إنها ركيزة حياة لازلو النور الخافت في نهاية نفق إحباطه، شريكة المعتقل والأسر والمنفى والألم المتراكم وحلمه الذي لم يمت يوماً، تضحياتها وصبرها وشجاعتها جعلتها مصدراً لا ينضب للقوة في حياة زوجها، ما كنا لنستشعر كل هذا لولا الأداء المتقن للممثلة الرائعة التي أثبتت موهبة لا تضاهى في هذا العمل.

لكن مفاجأة الفيلم الحقيقية كانت “غاي بيرس” الذي أذهلنا بتجسيده لدور “هاريسون لي فان بورين” الممول الأميركي والتمثيل الدقيق للرأسمالية الأميركية، يتمتع بيرس بكاريزما طبيعية أحسن استغلالها ببراعة في تجسيد دوره، إنه يفرض نفسه وسطوته من خلال لغة جسده ونبرته الودودة الهادئة التي يخفي وراءها تناقضات وغموضاً أخلاقياً يتوضح بشراسة عبر مشاهد الفيلم، إنه استغلالي عنيف يظهر في البدء أنه الممول المحسن الذي يريد مساعدة لازلو لتحقيق حلمه، لكنه في الواقع يستغل حاجته الماسة كمهاجر، يمكن اعتبار شخصية فون بورين على أنها نقيض البطل، إنه القوة المحورية التي تدفع لازلو إلى حافة الانهيار، الشرير البغيض الذي لا يجد متعته إلا في تحويل حياة الآخرين إلى جحيم كي يحقق مصالحه، لكن مع كل ذلك أنت مغرم به وبالكاريزما الطاغية على شخصيته، خاصة تلك الكيمياء المذهلة التي حققها مع كل من برودي وجونز والتي يصعب حقاً مقاومتها أو التغاضي عنها.

في الواقع يبدو فون بورين بالنسبة لي نسخة أقل تعقيداً وقسوة من “دانيال بلاينفيو” الذي أبدع “السير دانيال داي لويس” في تجسيدها في فيلم There Will Be Blood التشابهات بين الشخصيتين كثيرة، لكن لم يخلق بعد ذلك الذي قد يتفوق على السير دانيال في الأداء، فشخصية فون بورين أقل عدوانية وشراشة من بلاينفيو، لكنه مثله مسيطر مهيمن يسعى لتحقيق مآربه على حساب الآخرين، وجذاب بطريقة لا تقاوم ولعل هذا أكثر من كاف ليكون دليلاً على براعة بيرس في تجسيده لهذه الشخصية المعقدة الغريبة التي أضافت الكثير من الدراما للأحداث.

كان هناك بعض المآخذ والانتقادات التي وجهت للفيلم, فالعمل المثالي لم ولن يُصنع يوماً، إذ أن الحبكة افتقدت إلى عمق عاطفي واضح في تصوير الشخصيات التي بدت أحياناً وكأنها رموز أكثر منها شخصيات إنسانية، إضافة إلى عدم قدرة العمل على خلق توازن واضح بين البعد البصري والسرد الإنساني وهي أخطاء بسيطة لا بد ظهورها في أي عمل سينمائي

لكن كل هذه الانتقادات لم تكن شيئاً أمام الهجوم الشرس الذي انتشر كالنار في الهشيم بعد أن أقر صناع الفيلم أنهم استخدموا الذكاء الإصطناعي في تحسين لهجة برودي وجونز المجرية, مما جعل هذا العمل المذهل هدفاً لهجوم لا يرحم وتهديدات بحرمانه من التواجد في الأوسكار, واتهامات طالت نجم العمل إدريان برودي شخصياً بأنه استخدم الذكاء الإصطناعي لتحسين أدائه, كأن أصغر فائز بالأوسكار بحاجة لأي مساعدة من أي نوع باستثناء موهبة فطرية تجلت منذ ظهوره الأول، إن منبع هذه الانتقادات يكمن في الحساسية الشديدة والفوبيا التي ارتبطت بتزايد سطوة الذكاء الإصطناعي على حياتنا لا أكثر, ولا ينبغي حقاً أن تؤثر حقيقة استخدامه في نظرتنا المتكاملة لهذا العمل الاستثنائي أو أن تدخل في معايير نقده أساساً, ففي نهاية المطاف الذكاء الإصطناعي عند استخدامه باعتدال وترو قد يتحول إلى أداة مساعدة كالصور المولدة بواسطة الكومبيوتر التي يصعب الاستغناء عنها حالياً.

ختاماً يمكن أن نقول أن الوحشي كان أكثر من مجرد فيلم عن الهجرة أو الحلم الأميركي، إنما هو رحلة إنسانية ملحمية تكشف عن أوجاع المنفى وصراعات الهوية والطموح.

بفضل رؤية إخراجية متقنة، وأداء استثنائي من طاقم العمل، وقصة محكمة تجمع بين الألم والأمل، يثبت الفيلم أنه تحفة سينمائية نادرة تستحق التأمل, لربما تكون هناك بعض العثرات البسيطة، لكنها لا تقلل من قوة العمل وتأثيره العاطفي العميق، إنه فيلم سيبقى محفوراً في ذاكرة المشاهد كعمل يدعونا للتفكير في معنى الحلم المعاناة، وما الذي قد نتركه خلفنا في سعينا لبناء مستقبل أفضل.

1 صوت - التقييم 6