إن الخيال الإنساني كما يقول الراحل أحمد خالد توفيق وغد لا يهمد، هذا الخيال الجامح الشاسع جعل عالمنا ما هو عليه اليوم، تطور تقني وتكنولوجي، فنون متنوعة مختلفة، والأهم أننا نجحنا في جعل خيالنا وأحلامنا شيئاً من قبيل الواقع الملموس ذلك عن طريق السينما.
إن السينما في جوهرها انعكاس للواقع كما نرغب فيه لا كما هو، إن السينما حكاية نراها ونسمعها ونتماهى في تفاصيلها، بعض الأفلام التي تصنع تتخطى حدود صالات العرض لتصبح جزءاً لا يتجزأ من حياتنا وثقافتنا وتاريخنا، وملحمة ستانلي كوبريك المستقبلية واحدة من تلك التحف السينمائية التي صنعت كي لا تنسى، تحمل هذه الملحمة اسم الأوديسا تلك الرحلة اليونانية المشؤومة التي قطعها أوديسيوس المغامر الشجاع كي يعود عودة مكلّلة بالشرف والفخر إلى بينيلوب زوجته المخلصة الأمينة، لكن أوديسا كوبريك لا تخترق عباب البحار إنما تدور أحداثها هناك في الأعالي في الكون الشاسع المرعب الذي نعتقد ببلاهة أننا مركزه والمسيطرون عليه.
الأوديسا.. رحلة البحث عن معنى الوجود

لربما لم تر أوديسا الفضاء من قبل لكن افتتاحيته التي تحمل اسم فجر الإنسان مألوفة لك بدون أي شك، إنه المشهد الأكثر شهرة في تاريخ السينما.
على نغمات تحفة شتراوس الملحمية هكذا تكلم زرادشت التي تبث بشكل فوري الشعور بالرهبة والتوجس، ينطلق المشهد بمناظر طبيعية هادئة الصحراء الافريقية بعيد طلوع الفجر، نرى هناك مجموعة من القردة الذين يعيشون حياة مرهقة قاسية وامها البحث عن طعام ومحاولة البقاء على قيد الحياة، فجأة يظهر عمود أسود ضخم بينهم، عمود هو الرمز الأكثر غموضاً حتى يومنا هذا.
يمسك أحد القردة عظمة ويكتشف أنه قادر على استخدامها كسلاح، تطير العظمة في الهواء لتتحول بغتة إلى مركبة فضائية في واحدة من أفضل وأعظم ال Matchcut في تاريخ السينما، لقد تطورت الحضارة وتطور الوعي البشري، وأضحى بإمكانه اختراق الفضاء وهو ما حدث في المستقبل عام 2001 حيث يعود العمود الأسود للظهور باعثاً إشارات نحو كوكب المشتري، ولكي يُفهم سر هذه الإشارة تبدأ بعثة فضائية بقيادة رائد القضاء ديفيد بومان وزميله فرانك بول إضافة إلى نظام ذكاء اصطناعي متقدم للغاية صمم خصيصاً كي يكون معصوماً عن الخطأ يدعى HAL 9000 الذي يبدو في البداية مطيعاً جاهزاً لتقديم أي مساعدة تطلب منه لكنه سرعان ما يتمرد على صانعيه ويتعين على رواد الفضاء النجاة بأرواحهم بأي ثمن
لقد كانت الأوديسا تجربة سينمائية فريدة من نوعها وعملاً فلسفياً أعاد تعريف السينما، لقد خلق كوبريك بالتعاون مع الكاتب آرثر سي كلارك عملاً ثورياً يطرح أسئلة كونية عن الوجود والإنسانية والموت والحياة معتمداً على ما هو أكثر من السرد التقليدي، على الصورة والموسيقى وهو ما جعله العمل الأكثر إثارة للاهتمام والفيلم الأكثر تأثيراً في تاريخ السينما ككل.
كوبريك سيد الصورة الأعظم

أن تصف ستانلي كوبريك بأنه مجرد مجرد مخرج سينما لهو أشبه بأن تصف مايكل أنجلو بأنه مجرد رسام، إن كوبريك واحد من أولئك الذين أحرقت الموهبة جزءاً من أرواحهم فوجدوا في الفن متنفساً لهم وبوابة لفهم العالم وتصويره حسب رؤيتهم، كمخرج فإن كوبريك هو سيد الصورة بلا منازع، ودائماً ما كان مهووساً بالتماثل البصري الكاميرا مثبتة على محور مركزي بحيث تشعر أن كل عنصر في الصورة هو جزء من الحكاية، في أوديسا الفضاء كان للصورة حضور كبير جعل من الفيلم ما هو عليه، لقد أراد كوبريك أن ينقل لنا رهبة الفضاء وعظمته وذلك الخوف القابع في أعماقنا من المجهول، وهو ما فعله ببراعة باستخدام مركزية الكاميرا والألوان المدروسة بدقة كي تنقل لنا شعوراً لا بد أن كل من اخترق القضاء يوماً عانى منه، العزلة.
الفضاء بارد مظلم حيادي أما المركبة فهي متوهجة بالأضواء المتباينة بين الإنسان والآلة، كل ما في المركبة ملون بالأسود والأبيض والرمادي فيما يشع هال 9000 باللون الأحمر القاني في إشارة مبكّرة إلى كونه المسيطر الأول على المركبة.
صور الفيلم في نهاية الستينات، في زمن اعتبر فيه الهاتف المحمول ضرباً من الجنون، لكن كوبريك السابق لعصره ابتكر أساليب جديدة في التصوير خاصة في مشاهد انعدام الجاذبية التي كانت فيها الكاميرا ثابتة لا تتزحزح فيما تم بناء ديكورات دوارة داخل المركبة الفضائية لإعطاء المشاهد شعوراً ملّحاً أن ما تراه هنا يحدث خارج هذا العالم، مشاهد اعتبرت ثورية آنذاك ومنحتنا تجربة بصرية واقعية لدرجة لا تنسى.
لم يكن أسلوب كوبريك البصري في الأوديسا مجرد تقنيات بصرية فريدة من نوعها إنما كانت تجربة فلسفية عميقة غاصت بنا في وجود الإنسان في الكون الشاسع غير المحدود وفي حرب لم ندرك بعد خطورتها أمام التطور التقني المتسارع والذكاء الإصطناعي.
عندما تحكي الموسيقى الحكاية

الموسيقى هي العمود الفقري لأي عمل سينمائي مهما كان نوعه، قليلة هي الأعمال التي نجحت في الاستغناء عن هذا العنصر الأساسي لكنها وفي عالم الأوديسا أكثر من مجرد خلفية صوتية إنها جزء لا يتجزأ من الفيلم وعنصر أساسي في بنائه السينمائي.
يقولون أن الموسيقى لغة الأرواح وكوبريك أدرك هذه الحقيقة بوضوح، لذا وعوضاً عن إنشاء موسيقى خاصة بالفيلم استعان بسيمفونية ريتشارد شتراوس الشهيرة التي حملت عنوان هكذا تكلم زرادشت كي يفتتح به ملحمته، لا شك أن كوبريك استخدم هذه القطعة بالذات لأنها تخلق شعوراً لا مهرب منه بالانبعاث والتوجس، تلك النغمات القدرية المتصاعدة العميقة القادمة من قلب الكون تبدو كأنها إعلان لتحول لا رجعة فيه، لقد أشرقت شمس الوعي الإنساني وبدأت رحلة التطور الإنساني على وقع ألحان شتراوس الأسطورية.
لم يكتف كوبريك بهكذا تكلم زرادشت إذ أنه أعاد تسخير الموسيقى الكلاسيكية مجدداً وهذه المرة استعان بيوهان شتراوس الابن كي تتراقص المركبة عبر غياهب الفضاء الشاسع على أنغام الدانوب الأزرق، ذلك التناغم البطيء الانسيابي الذي جمع بين الموسيقى وحركة المركبة منح المشهد طابعاً شعرياً خلق تبايناً بين الفراغ والعدم والصمت الكوني البارد.
لم تكن الموسيقى مجرد وسيلة لملء الفراغ، بل كانت جزءاً مهماً من فلسفة الفيلم نفسها، الموسيقى جزء حميم من تطورنا كبشر وتحولنا من قردة بدائية تتصارع لأجل لقمة العيش إلى ما نحن عليه الآن، الصمت مقابل الموسيقى هو واحد من أهم عناصر الفيلم وأكثرها جذباً للانتباه، في تلك اللحظة التي تصمت فيها الموسيقى يصبح الصمت سيد المشهد الأمر الذي يعزز مفهوم العزلة والضياع الذي عاشه أبطال الفيلم.
فلسفة لا تزال تثير حيرتنا بعد عقود

من أين أتينا وكيف أصبحنا ما نحن عليه اليوم؟ كيف نشأ الكون؟ أسئلة محيرة لا إجابة وافية عنها حتى يومنا هذا، أسئلة شكلت الانقسام الأكبر بين بني البشر بين من يؤمن بأن الكون وجد كما هو عليه، وبين ما يرى أننا تطورنا عبر القرون كي نتأقلم مع كوكبنا.
لا يفوّت كوبريك الفرصة كي يطرح فلسفته الخاصة، فالأوديسا كما سبق وقلنا ليست مجرد فيلم خيال علمي عادي، إنما هو تصوير بارع لفلسفة كوبريك الذي استمتع بإثارة حيرتنا منذ ستة عقود وحتى اليوم.
منذ بداية الفيلم يتوضح لنا أن كوبريك يؤكد نظرية داروين الشهيرة، لقد تطورنا من القردة وقطعنا مسافات شاسعة كي نتحول من القتال بالعظام إلى اختراق الفضاء الخارجي، ذلك العمود الأسود هو الرمز الأكثر غموضاً في تاريخ السينما، هناك تفسيرات كثيرة ترتبط به محاولة تبرير ماهية وجوده، لربما يكون رمزاً لتطورنا، للحظة التي سخّرنا فيها عقولنا وذكاءنا كي ننتقل إلى مرحلة جديدة في تاريخ جنسنا البشري.
لكن رمزية وجود هال 9000 كانت أوضح من أن تفسر، لقد أقلق التطور التقني الكبير كوبريك، وأثار في نفسه مخاوف وجد في السينما وسيلة لاستعراضها، في بداية الفيلم كان هال صديقاً وفيّاً وخادماً مطيعاً لا يسعده شيء قدر أن يلبي أي أمر يوجه له، إنه أكثر من مجرد آلة حمقاء إنه ذكاء اصطناعي متقدم قادر على التفكير المنطقي، تفكير يحوله بغتة إلى أسوأ عدو يمكن تخيله، لقد تمرد الصانع على مصنوعه وخرج عن سيطرة البشر، يطرح كوبريك سؤالاً وجودياً مقلقاً يتجلّى في نبرة الذعر والخوف التي لونت صوت هال قبيل إيقافه بشكل نهائي، هل يمكن للآلة أن تكتسب ” وعياً ” حقيقياً؟
تذكر هذا السؤال في كل مرة تلجأ فيها إلى Chat GPT الوفي كي يساعدك في حل مشكلة تواجهك أو القيام بمهمة مسنودة إليك.
لا يكتفي كوبريك بهذا، بل يضعنا في خضم عزلة رواد الفضاء عزلة قاسية باردة تعكس حالتنا في هذا الكون السرمدي، في نهاية المطاف نحن كائنات صغيرة تواجه فضاء شاسعاً لا حدود له يؤكد كوبريك بكاميراته الثابتة أن الإنسان ورغم تقدمه العلمي لا يزال قاصراً عاجزاً عن فهم معنى وجوده.
لو كنت قد شاهدت الفيلم فلا بد أن نهايته أثارت فيك حيرة ما بعدها حيرة، في ختام الفيلم يدخل بومان في بوابة النجوم ويجد نفسه في غرفة كلاسيكية غامضة يتحول بعدها إلى جنين نجمي كيان جديد يطفو فوق الأرض.
يترك كوبريك نهاية ملحمته مفتوحة لكل التأويلات الممكنة، رافضاً تقديم إجابة واحدة واضحة، فالنهاية تُفسر حسب طريقة تفكيرك ورؤيتك الخاصة للكون، إن هذه النهاية هي ما جعلت أوديسا الفضاء عملاً خالداً يتجاوز حدود الزمن والفن، إنه تأمل عميق في معنى الوجود والعدم في معنى الحياة والموت وفي معنى الوهم الطويل الذي نرغم على العيش فيه تحت مسمى الحياة
تأثير سينمائي ثقافي يتجاوز الزمن

لقد كانت أوديسا كوبريك نقطة تحول ونقلة أسطورية غيرت مجرى السينما ووجهها إلى الأبد، وأحدثت تأثيراً عميقاً في الثقافة السينمائية والشعبية على حد سواء.
لم يكتف كوبريك بتقديم قصة مختلفة تجاوزت كل الحدود والمعايير المعتادة إنما قدم لنا عملاً فذاً على صعيد الصورة والموسيقى والفلسفة والثقافة على حد سواء.
قبل الأوديسا كانت أفلام الفضاء تقدم بأسلوب بدائي مزعج بصرياً حتى جاء كوبريك كي يجعل أشد الخيالات جموحاً حقيقة ملموسة، مبتكراً أساليب وتقنيات تصويرية جديدة لا تزال تستخدم حتى يومنا هذا.
قبل كوبريك كانت أفلام الفضاء أعمالاً قليلة التأثير والقيمة، يمكن القول أن كوبريك فتح الباب أمام ريدلي سكوت وستيفن سبيلبيرغ وغيرهم الكثير لتقديم الخيال العلمي في قالب فلسفي فني جعل من أعمالهم تحفاً لا تفوت.
لم يقتصر تأثير أوديسا كوبريك على السينما فحسب، بل تجاوزه كي يخترق المجتمع ويفتح العيون على الفضاء وعالمه الغامض، كما أنه نجح في تقديم نظرة مستقبلية مقلقة نوعاً ما لمستقبل كان آنذاك بعيداً للغاية، مكالمات الفيديو الذكاء الإصطناعي المركبات الفضائية، لو كان كوبريك حياً لكان قد مات حسرة وهماً حينما يجد أن المستقبل الذي صنع ملحمته كي يحذرنا منه قد أضحى واقعاً ملموساً مخيفاً نعيشه باستسلام كامل.
ختاماً ينبغي لنا القول أن أوديسا الفضاء 2001 هو تجربة سينمائية لا تفوت، تجربة تقلب كل معاييرك تخترق عقلك وتعيد تعريف مفهوم السينما في حياتك.
لقد قدم ستانلي كوبريك عملاً سيخلد إلى الأبد ونسجت عبقريته الفذة حكاية متكاملة تستكشف أعمق مخاوفنا الوجودية التي قد لا ندرك وجودها أصلاً, تدفعك الأوديسا للتأمل في معنى الوجود لأن تلقي نظرة أخرى إلى الأعلى إلى ذلك العالم الساحر الغامض الذي نظن بسذاجة أننا ملكناه
لم تكن الأوديسا يوماً مجرد فيلم آخر، إنها تجربة روحية بصرية فلسفية لا تزال بعد عقود من خلقها تلهم أجيالاً جديدة من صانعي الأفلام. لقد كانت أوديسا هوميروس حجر الأساس في تاريخ الأدب ولا نبالغ لو قلنا أن أوديسا كوبريك هي حجر الأساس في تاريخ السينما وواحدة من أعظم وأهم الأعمال السينمائية على الإطلاق.
رحل ستانلي عن عالمنا بغموض مخلفاً فراغاً يستحيل ملؤه، لكن الأوديسا بقيت هنا صامدة غامضة مذهلة تنتظر بشغف من يفك أسرارها وخفاياها.

Movie Critic