“أحياناً أتساءل، من هو الوحش الحقيقي؟ أنا… أم أنت يا فيكتور؟”
رواية فرانكنشتاين – ماري شيلي
عام 1818 أخرجت ماري شيلي تحفتها الأدبية التي رسخت اسمها إلى آخر الزمان، تحفة غيرت عالم الأدب بشكل جذري إلى الأبد. لأعوام وأعوام اقتبست السينما ملحمة ماري شيلي ووجدت فيها نبعاً ثرياً لا ينضب لحكايات الرعب وأفلام الهالوين. لقد رأت هوليوود في حكاية فرانكنشتاين وحشاً كاسراً مدمراً يصلح بشدة لإثارة رعب المشاهدين وتسليتهم بكم متزايد من الدماء والأشلاء والجثث.
لم يرهق أحد نفسه كي يفهم الفلسفة القابعة خلف الحكاية، كي يقرأ بين السطور ويدرك أنها ليست مجرد قصة أخرى عن وحش مسعور وعالم مجنون، إنما هي حكاية فلسفية إنسانية عن أب رافض لابنه، عن خالق يأبى تحمل مسؤولية نتيجة خلقه. حتى جاء شاعر السينما القوطية غييرمو ديل تورو واضعاً فرانكنشتاين نصب عينيه، مقدماً وللمرة الأولى غالباً حكاية الوحش كما أرادتها ماري شيلي قبل قرنين من الزمن.

ينطلق الفيلم انطلاقة أمينة لأصله الروائي، هناك في قلب ثلوج القطب الشمالي يجد مجموعة من البحارة بقيادة الكابتن أندرسون رجلاً محطماً تكاد روحه أن تزهق بين الجليد، أما الأسوأ والأكثر رعباً أن مخلوقاً غامضاً مريعاً يطارده بلا هوادة. بعد التخلص من المخلوق يأخذ الكابتن الرجل الجريح إلى قمرته كي يسمع حكايته. يتضح أن هذا الرجل هو البارون فيكتور فرانكنشتاين، الطبيب ذو الطموح الأعمى الذي جعل موت أمه منه مهووساً بفكرة الحياة والموت، عازماً على التحول إلى إله ومنح مخلوق من صنع يديه هبة الحياة.
من الوهلة الأولى يبدو واضحاً أن ديل تورو لم يهتم بالوحش كجسد مشوه بل كروح مهانة، كضحية تبحث عن مكان لها في عالم يرفض وجودها ونتيجة مأساوية لطموح جنوني أعمى. ينقسم السرد إلى فصلين، الأول يرويه فيكتور، والثاني يرويه الوحش الذي امتلك أخيراً صوتاً سينمائياً كي يحكي مأساته. يعيد الفيلم طرح سؤال ماري شيلي الذي سألته منذ قرنين، من هو الوحش الحقيقي؟ أهو ذلك الذي خُلق من أشلاء جثث مبعثرة؟ أم أنه ذلك الأب الذي جاء به إلى العالم ثم تخلى عنه وتنكر لوجوده؟
في نسخة ديل تورو لم تكن حكاية فرانكنشتاين قصة رعب، بل مأساة إنسانية، حكاية طفل خذله أبوه، تخلى عنه في عالم يرفضه ويرى في وجوده قذارة ينبغي أن تُدمر. وهنا وقع المخرج الأسطوري في فخ لم يحسب له حساباً، لقد جرد الوحش من أبرز ما يجعله ما هو عليه: وحش مسخ مدمر غاضب. في الفيلم يظهر الوحش بشكل شبه طبيعي، جسد بشري بندوب خياطة جراحية متناثرة، على عكس ما وصفته الرواية بأنه مجموعة غير متناسقة من الأجزاء البشرية، وحش قبيح مرعب جعل خالقه يصرخ اشمئزازاً حين رآه للمرة الأولى.

ديل تورو أنسن الوحش وروّضه، جعله أقل رعباً مما ينبغي عليه أن يكون. حين تراه لن تستشعر ذلك الرعب والخوف الذي يجب أن تشعر به، بل ستشعر بالشفقة، بالتعاطف. يضيع الفيلم وقتاً كثيراً في توضيح مدى رغبة الوحش في أن يجد لنفسه عائلة تحتويه وتتقبله، الأمر الذي ينزع أساساً مهماً من روح قصة الوحش، الذي حوله رفض خالقه له، وإنكاره لصنيعته، إلى كتلة من الغضب والشراسة والوحشية.
أما فيكتور فرانكنشتاين فقد افتقد عاملاً مهماً، الندم. لقد ندم فرانكنشتاين بشدة على ما اقترفته يداه، وعاش صراعاً نفسياً عاطفياً مريراً بين رفضه لمخلوقه وندمه على صنعه في الأساس، الندم الذي التهمه باضطراد متصاعد. هذا الصراع يغيب عن الفيلم حتى قرب نهايته، إذ أن فيكتور الخاص بديل تورو كان غاضباً لئيماً محبطاً أكثر منه نادماً.
لكن الفيلم وُفق في نقطة مهمة، الصراع بين فرانكنشتاين ووحشه كان أساسه رفض فيكتور له، طرده، حرمانه من حبه، الأمر الذي خلق داخل الوحش رغبة في أن يجد لنفسه رفيقة، كائناً مثله، مسخاً يقبله ويحبه بما هو عليه، كتعويض عما فعله فرانكنشتاين به.

بصرياً أثبت غييرمو ديل تورو مرة أخرى أنه سيد الصورة، شاعر القوطية الأسمى. صوره جزء من الحكاية، كاميرته تترنح عبر الأحداث، تتناغم مع ألوان تنسج حكايتها الخاصة بين ألوان كالحة قاتمة تشكل عالمي فرانكنشتاين ووحشه، وبين ألوان إليزابيث، خطيبة شقيق فيكتور، النقية الرقيقة التي تخترق ظلمات روح فرانكنشتاين بألوان تتراوح بين الأزرق والأخضر، كأنما هي الشيء النقي الوحيد في حياة أفعمتها الخطيئة وعجرفة البشر.
كما أن ديل تورو كان موفقاً للغاية في اختياره لطاقم التمثيل الخاص بالفيلم. جايكوب إيلوردي يقدم دور حياته، مجسداً الروح التائهة المعذبة للوحش. رغم طبقات المكياج الكثيفة ينجح إيلوردي في منح الوحش لمسة إنسانية ترغمك على التعاطف معه. إنه أشبه بطفل صغير لا يريد إلا أن يحبه أحد، طفل يتحول إلى مخلوق متوحش مدمر لا يرحم. لقد قدم جايكوب إيلوردي أداء لا يُنسى، ستظل طبقة صوته العميقة الخارجة من قلب الألم والوحدة رمزاً للوحش لأعوام قادمة.

فيما كان أوسكار أيزاك مقنعاً للغاية بدور فيكتور فرانكنشتاين. إنه الرجل الخائف المرتجف الذي يحكي خطيئته للقبطان، ولاحقاً نراه في ماضيه رجلاً حازماً قاسياً أعمته رغبته الجنونية وأسقمته أحلامه. يتصاعد أداء أيزاك حتى يصل ذروته قرب النهاية، حينها نرى فيكتور فرانكنشتاين كما ينبغي أن يكون، حطاماً بشرياً تغلغل الندم في أعماقه حتى التهمه حياً.
أما ميا غوث فقد كانت كإليزابيث الشخصية التي قدمتها نسمة رقيقة وروحاً نقية. كانت النور في ظلام العمل، ملامحها الشاحبة الدقيقة تؤهلها بشدة لتكون بطلة حكاية قوطية. أداؤها المتقن أضاف تلك اللمسة الأنثوية التي احتاجت إليها الحكاية. لقد كانت إليزابيث المرأة الأولى في حياة الوحش، منارته نحو عالم العاطفة. كانت أول من رأى فيه أكثر من مجرد مخلوق غريب بندوب قبيحة، رأته كما هو، كائناً أُرغم على حياة لم يطلبها.

لقد كان فيلم فرانكنشتاين حلم غييرمو ديل تورو الأثير، بوصلته السينمائية، طفله المنتظر منذ أعوام طوال. لقد رأى فنان المتاهة ما خلف جنون فرانكنشتاين وقبح وحشه، رأى روح ماري شيلي المعذبة، أمومتها المفقودة، رغبتها الجامحة في أن تُرضي أباها الذي نبذها عقب موت أمها. لقد قدم ديل تورو قصة فرانكنشتاين كحكاية إنسانية عن طفل تائه يريد فقط أن يشعر بالانتماء. لربما حاد عن أساس الرعب الكامن في الحكاية، لكنه وبلا أي شك قدم ملحمة مذهلة بصرياً، ملحمة نقلت خيالاً جامحاً بأمانة حقيقية إلى الشاشة، مبرهناً أن السينما تستحق أن تكون وتظل وتبقى إلى الأبد سابع الفنون وختامها.

Movie Critic
