كثيرةٌ هي الظروف التي تحفز الإنسان العادي على التوثيق, فمن كاميرا الهاتف المحمول يستطيع الواحد منا أن يصبح مخرجاً لفيلمه الخاص الذي لا يتجاوز أحلامه الصغيرة ولا يقفز فوق قصصه البسيطة. ومن هنا اجتمع 22 مخرجاً هاوياً ليبحثوا عن نافذة لإيصال صرخاتهم وبسماتهم وفي حديث آخر مقاومتهم إلى العالم. يجمع مشروع From Ground Zero مجموعة من الأفلام القصيرة التي تروي قصصاً من قلب غزة، حيث تعكس كل منها جانباً من الحياة في هذه المدينة المحاصرة. يتراوح طول الأفلام بين دقيقتين وعشر دقائق، لكنها جميعاً تتفق في الهدف؛ إيصال صوت أهالي غزة إلى العالم، ورسم صورة واضحة عن معاناتهم، آمالهم، وتحدياتهم اليومية تحت الحصار.
التنوع الفني والسردي
من الناحية الفنية، أبدع مشرفو المشروع بتقديم الصورة كما أرادها أصحاب الحكاية. يعكس كل فيلم بصمة مخرجه الخاصة، مستخدمًا تقنيات سينمائية متنوعة تتراوح بين الأسلوب الوثائقي والسرد الرمزي. بعض الأفلام اعتمدت على التصوير الواقعي، حيث استخدم المخرجون الضوء الطبيعي ودرجات الألوان الباهتة لتكثيف الشعور بالواقع اليومي في غزة. على سبيل المثال، في مشهد يظهر رجلاً يبحث عن أخيه تحت أطلال منزله المدمر وفي خضم بحثه المستميت وجد ابنة أخيه قد تبعته إلى موقع منزلهم المتهدم. استخدم المخرج ألوان الظهيرة والظلال القاسية لإبراز قسوة الظروف تحت الشمس الحارقة، بينما كانت حركة الكاميرا البطيئة تعزز من شعورنا بالوقت الذي يبدو وكأنه توقف في تلك اللحظة. بينما لجأ البعض الآخر إلى استخدام الرمزية والتجريد لنقل مشاعر معقدة وكثيفة. تم استخدام تقنيات الستوب موشن ومسرح العرائس وورق الأشغال لشرح جوانب عاطفية معينة تناسب ذوق الأكاديمية ليمهد للمشروع طريقاً معقدة تجاه القائمة النهائية للأوسكار. اعتمد صانعو الأفلام على العفوية وبناء المشهد دون تكلف، مما خلق إحساسًا بالصدق والبساطة.
في أحد الأفلام، نرى كاتبة تتحدث بعفوية عن تأثير الأدب في حياتها، مستخدمة إضاءة طبيعية وخلفية خالية من الزخرفة. هذا الأسلوب جعلنا نشعر وكأننا نشاركها لحظة حميمة وحقيقية، مما يزيد من تأثير رسالتها حول كيف غيّرت الكارثة حياتها بشكل لا رجعة فيه. هنا، العفوية لم تكن مجرد اختيار فني، بل كانت أداة لإبراز الإحساس بالواقعية والصدق. هذا لأنها استخدمت تركيب “صديقي المشاهد” مما عزز من إمكانية التقارب بين المشاهد وفكرة الفيلم.
لفت نظري أحد الأفلام لأن مخرجه قد حاول سابقاً أن يصنع فيلماً روائياً كي يشارك في المهرجانات وأثناء تصويره قال جملة مهمة “عذراً سينما لكنني أريد الحياة”. يسرد المخرج به رحلته مع السينما فيتحدث عن مشروعه الخاص قبل أن تتمخض أحلامه شيئاً فشيئاً لتصبح تتمحور حول إيجاد أكثر الأماكن أمن لعائلته.
ومن جانبٍ آخر اعتمدت إحدى صانعات الأفلام على اللهجة الحالمة المتفائلة فسمت فيلمها “No” للدلالة على رفضها لقصص مأساوية لأفلام محتملة في قلب غزة طرحها عليها زميلها في الإعداد. فاستعانت المخرجة بفرقة صول الموسيقية التي لازلت تستخدم الموسيقى والأغاني للتخفيف من أوجاع الحياة على النازحين وخصوصاً الأطفال فكان الفيلم استراحة بسيطة من أهوال الموت المحدق على بعد كيلومترات من موقع التصوير.
لم تتوقف القصص عن سرد نفسها لنجد أنفسنا أمام لوحة فسيفسائية تكون صورة الحصار بمختلف وجوهها الحالمة منها والحزينة. ومن الجانب الفني وأثناء عرض الأفلام التي اعتمدت على الستوب موشن شرح فيها المخرجون للأطفال كيف يصنعون قصصهم فكان الفيلم من كتابة أطفال غزة منهم وإليهم كي يحاولوا ولو بشكل بسيط إعادة البسمة إلى وجوه الأطفال.
القضايا المطروحة والبنية السردية
أحد الجوانب القوية في هذا المشروع هو التعددية في القضايا التي يتناولها. تتناول الأفلام جوانب متنوعة من حياة الغزيين؛ من الصمود اليومي في مواجهة الدمار، إلى لحظات الفرح البسيطة التي تعبر عن التمسك بالحياة. تجسد الأفلام الحياة اليومية بأدق تفاصيلها، سواء كانت تلك اللحظات المتعلقة بالبحث عن لقمة العيش أو التحديات التي تواجه الشباب في ظل الحصار.
لقد طرح المشروع قضية المفقودين تحت الأنقاض والحالة الإنسانية الصعبة أثناء رمي صناديق المساعدات من السماء لكنه لم ينسَ أن يركز أيضاً على معاناة الحيوانات فكان فيلم “تاكسي ونيسة” الذي لم يكتمل تصويره بسبب وفاة البطل جراء غارة إسرائيلية. يركز الفيلم على حياة مواطنٍ غزيّ يملك حماراً أبيضاً اسمه ونيسة وقد ربطه بعربة متوسطة الحجم ليعمل في الشوارع كتاكسي مسافات قصيرة للمحتاجين، ونحن نهم إلى نهاية الفيلم ظهرت المخرجة التي تكون أخت البطل في فيديو منفصل عن الأحداث لتكشف عن موت أخيها ووفاة الحمارة “ونيسة” جراء الجوع.
ولست بصدد تحليل الأفلام كلٌّ على حدى لأنها ستشرح نفسها بنفسها وستقول للمشاهد أنت تشاهد ناساً عاديين وليسوا صانعي محتوى أو صانعي أفلام يتكلمون من برجٍ عاجي. ما يميز هذه الأفلام هو قدرتها على إحداث تأثير عاطفي قوي.
تمكن المخرجون من نقل مشاعر أهالي غزة ببراعة، مما يجعل المشاهد يشعر بعمق معاناتهم وفي نفس الوقت يستشعر قوتهم وصمودهم. من خلال شهادات حية ومشاهد واقعية، لا يمكن إلا أن تترك في المشاهد حملاً ثقيلاً عندما يغادر قاعة السينما.
الخاتمة: قيمة المشروع وتأثيره
مشروع “From Ground Zero” ليس مجرد سلسلة من الأفلام القصيرة، بل هو نافذة فريدة تتيح للعالم رؤية حياة أهل غزة من منظور جديد، حيث تتشابك المعاناة مع الأمل في سرديات بصرية مؤثرة. نجح المشروع في تقديم تجربة إنسانية استثنائية، بفضل التنوع الفني والسردي الذي منح كل فيلم طابعًا خاصًا، مما جعل كل قصة جزءًا لا يتجزأ من لوحة أكبر تعكس قوة الصمود والكرامة.
ما يميز هذا المشروع حقًا هو صدقه العفوي، الذي تجسد من خلال اعتماد المخرجين الهواة، مما أضفى على الأفلام نكهة واقعية غير مصفاة. هذا الصدق لم يقتصر فقط على العرض الفني، بل امتد ليشمل الرسالة الإنسانية العميقة التي تحملها الأفلام، وهي رسالة تضامن مع أهل غزة في معاناتهم اليومية، وتأكيد على قوة الإرادة البشرية في مواجهة أصعب الظروف.
إن مشروع “From Ground Zero” ليس مجرد عمل سينمائي عاديّ، بل هو شهادة حيّة على ما يحدث في غزة، ودعوة للتأمل والتعاطف مع ما يمر به سكانها. إنه عمل يترك بصمة لا تُمحى في ذاكرة كل من يشاهده، ويحفز على التفكير العميق حول واقع الحياة في المناطق المنكوبة. أوصي بمشاهدة هذا المشروع لكل من يبحث عن فهم أعمق للأحداث في غزة، ولمن يرغب في تجربة فنية تمزج بين الإبداع والإنسانية بامتياز.
Writer and Movie Critic