“هناك أساطير عن أشخاص .. يولدون بموهبة ابتكار موسيقى بمنتهى الأصالة، إلى حد انه يمكنها اختراق الستار بين الحياة والموت واستحضار أرواح من الماضي والمستقبل”
قد تكون هذه الجملة هي الأكثر تعبيراً عن رحلة ”المذنبون“ The Sinners الأيقونية.
يُعد فيلم The Sinners تحديًا سينمائيًا جريئًا من المخرج رايان كوجلر، إذ قرر عزف التاريخ التراجيدي الطويل للمجتمع الإفريقي الأميركي على أوتار موسيقى البلوز، ضمن إطار من الرعب القوطي المزين بأدبيات مجتمع ثلاثينيات القرن العشرين في ولاية ميسيسيبي. يقدم الفيلم موجزًا دراميًا مظلمًا ومكثفًا يجمع كل مطبّات التوتر العرقي واضطرابات الهوية والثقافة، التي وُلدت من رحمها شتى أشكال الموسيقى السوداء؛ تلك التي كانت بمثابة المنقذ ومسكن الألم، ثم تحولت إلى وطن، والتخلي عنها أصبح خيانة.

وسط كل هذا التخبّط والأحداث، كان هناك عنصر في الخلفية لم ينهَر أو يضعُف، بل حتى لحظات ضعفه حملت شكلًا من أشكال التطور، وهو الموسيقى التصويرية من تأليف لودفيغ غورانسون. جاءت هذه الموسيقى كمقطوعة فنية قائمة بذاتها، لا لتكمل درامية المشهد فحسب، بل لتكون شريكة له تتطور بالتوازي معه بخط مستقل. تم تنسيقها وتصميمها بما يتناسب مع الأزمات التاريخية، لتتبلور في شكلها النهائي كما لو أنها تروي قصتها المصورة؛ فالصورة كانت تخدمها، لا العكس. باختصار، تعكس الموسيقى التصويرية في فيلم المذنبون عبقرية غير مسبوقة في عالم السينما.
تضاف إلى ذلك التأثيرات الصوتية، التي عكست جرأة من نوع خاص، إذ مُنحت استقلاليتها أيضًا لتعزيز الحوار، عبر إضفاء صوتيات تُعبّر عن كل حدث أو قصة تُروى.

في أحد أكثر المشاهد سحرًا، والذي يُعد ذروة الإبداع الإخراجي من كوجلر، يُقدّم الموسيقي الشاب “سامي” نفسه أمام جمهور الحانة الموسيقية المشؤومة. في هذا المشهد، لعب كوجلر جميع أوراقه الإخراجية لرسم لوحة تختزل تاريخ الموسيقى السوداء، حيث جمعت أبرز محطاتها في ثلاث دقائق فقط. بدأ المشهد بالبلوز، ومرّ بالروك، والجاز، والهيب هوب، والأفرو بيتس، والبوب، وصولًا إلى ما يشبه اللانهاية.

اختيار مصّاصي الدماء في القصة لم يكن عبثيًا؛ إذ مثّلوا رموزًا للصراعات الاجتماعية، من طبقية وعنصرية وثقافية. فهم يجسّدون الرجل الأبيض الذي يمتص كل اختلاف حوله ليسود المشهد بتفرد، فارضًا ثقافته التي يعتبرها أرقى من سواها. من هنا كان مصّاص الدماء الأبيض “ريميك” يستهدف الموسيقي الشاب “سامي” تحديدًا، وقال في أحد المشاهد: “أعطوني سامي ويمكنكم الرحيل”. كان سامي يُجسّد الثقافة بأكملها، والتخلي عنه يعني التخلي عن كل ما يميز ذلك المجتمع وخصوصيته. وهذا تمامًا ما يسعى إليه الرجل الأبيض، صبغ كل الثقافات بلونه لتصبح مقبولة فقط حين تكون جزءًا منه. وقد جسّد هذا التحول بوضوح حين حوّل السود الآخرين إلى مصّاصي دماء، حيث وقفوا لاحقًا ضد مجتمعاتهم الأصلية إلى جانب مجتمع أبيض لا يرى فيهم سوى خدَم. لقد حاربوا حتى ضد عائلاتهم في سبيل قضية لا تمثلهم. وهذا ما عبّر عنه الصراع بين الأخوين “ستاك” و“سموك”، وهو إسقاط درامي على واقع الانقسام والجريمة التي تنهش قلب المجتمع الإفريقي الأميركي.

وفي مشهد لافت في النهاية، يعود سامي من الحفلة الدموية إلى الكنيسة حيث يخدم والده القس، وهو يحمل ما تبقّى من الجيتار الذي كان يعزف عليه. يقول له والده: “تعال يا بُني… اترك الجيتار!” في هذا المشهد، يُمثّل الأب والكنيسة المجتمع التقليدي المحافظ، الذي يفضّل السلامة والخضوع على الحرية، والذي غالبًا ما يشكّل عائقًا أمام أي تقدّم. لكن سامي كان ثائرًا حقيقيًا، يرفض التخلي عن الجيتار، لأنه لم يكن مجرد آلة موسيقية، بل رمزًا للهوية والحرية.
فيلم The Sinners يعتبر من أفضل أفلام عام 2025 لحد الآن وأتوقع ترشحه للأوسكار عن فئة أفضل موسيقى تصويرية وأفضل تصوير وأفضل اخراج
MUSIC CREDIT : “I Lied to You” from Sinners (Original Motion Picture Soundtrack) | Performed by Miles Caton

CEO-Founder of Cinatopia
Movie Critic