هناك نوع خاص للغاية من الرعب يميز المهرجين، المكياج الرخيص الألوان الصارخة الحركات الخرقاء، لكن أكثر ما يمكن أن يثير مخاوفك من المهرجين هو الابتسامة تلك الابتسامة العريضة الأبدية الفارغة، إن رعب المهرجين مترسخ في وجداننا الجمعي منذ عصور لربما خلق منذ ظهر أول مهرج في التاريخ ولعل هذا الرعب هو ما جعل الجوكر واحداً من أشرس أعداء بطل غوثام الظلامي باتمان 

يُعرف باتمان كفارس الظلام المنتقم فاحش الثراء الذي خلق لنفسه مجموعة لا تنتهي من الأعداء غريبي الأطوار الذين لا يفشلون إطلاقاً في إثارة مخاوفنا، لكن الجوكر كان دائماً الأكثر شهرة.

إنه الشر الفج، وجه غوثام الأقبح الساخر المرير المعقد ذو الطبقات المكثفة من الغموض والذي لا ينفك يثير المتاعب في المدينة، كثيرون جسدوا هذه الشخصية بطرق متنوعة بعضهم كان من عمالقة هوليوود كجاك نيكلسون، وبعضهم قدم أداء لا يمكن أن ينسى كالراحل هيث ليدجر الذي رحل عن عالمنا قبل أن يعلم أنه سطر التاريخ بأدائه.

ظل ليدجر لأعوام هو الجوكر الأفضل الممثل الذي اقتنص ولأول مرة في التاريخ جائزة أوسكار بعدما جسد شخصية شرير من عوالم الكوميكس، حتى جاء عام 2019 حاملاً مفاجأة من العيار الثقيل سيعود الجوكر مجدداً بحلة مختلفة للغاية عما سبق وهذه المرة بعدسة تود فيليبس، فيما سيجسد الرائع خواكين فينيكس الدور.

رغم الانتقادات الشرسة التي لاقاها الجوكر بداية عرضه إلا أن الجمهور أغرم بأرثر فليك، ذلك الرجل المسكين المظلوم ضحية الأم المريضة والمجتمع المتوحش، لم يعد الجوكر الخاص بفينيكس ذلك الشرير البغيض الذي لا يجد شيئاً يفعله سوى إثارة جنون باتمان بل تحول إلى رمز للمسحوقين المهمشين لأولئك البؤساء الذين أدارت لهم غوثام وجهها القبيح تاركة إياهم متمرغين في القذارة والفقر فكانت ابتسامة فليك الدامية منارتهم إلى الحرية، فليك الذي انقسمت روحه كنتيجة حتمية لمعاناة أبدية وتوجت جنونه ابتسامة مرسومة بدمائه في مشهد لا ينسى شهد ميلاد الجوكر أخطر رجال مدينة غوثام، كان فيلم الجوكر حكاية عن عدو البطل لكنها بلا بطل مما جعله سبقاً سينمائياً غير معهود وصدمة درامية جذابة توجها أداء أسطوري من ممثل أسطوري هو خواكين فينيكس الذي اقتنص أوسكار مستحقة بشدة عن دوره الأسطوري هذا.


بعد غياب طويل أعلن “تود فيليبس” أن الجوكر سيعود مجدداً لكن هذه المرة بشكل موسيقي بثنائية جنونية بين فينيكس و“ليدي غاغا” التي يبدو أنها أغرمت بعالم الفن السابع حتى كادت أن تنسى الغناء لكن الفيلم ومع الأسف لاقى فشلاً ذريعاً غير مسبوق إذ أنه وللمرة الأولى في التاريخ يتفق النقاد والجمهور على فكرة واحدة فيلم Joker : Folie à Deux كارثة سينمائية

ينطلق الفيلم انطلاقة غريبة نوعاً ما بمشهد كرتوني من عالم لوني توون الشهير يلخص مسيرة آرثر فليك الرجل الذي احتوى في جسده الهزيل المضعضع رمزية أضخم منه بأضعاف إن الجوكر هو نتيجة للظلم الذي أحاط بأرثر منذ أعوام طويلة توضح هذه البداية الأساس الذي سيسير عليه الفيلم إن الجوكر تمثيل لمعاناة آرثر لكنه لا يمثل حقيقته.

تبدأ الأحداث من مصحة “آرخام” الكريهة التي استوحي اسمها من عوالم رعب “لافكرافت” والتي يعرفها كل من دخل يوماً عالم باتمان الشائك، هناك بين الجدران الكالحة ينتظر آرثر محاكمته وفي الوقت نفسه يتعرف على “لي كوينزل” نزيلة المصحة صاحبة الموهبة الموسيقية الواضحة المهووسة بالجوكر والتي يجد فيها آرثر ملجأ آمناً يبث فيه جنونه واضطرابه، لقد أصبح آرثر فليك شخصية مشهورة تنتظر غوثام بأكملها محاكمته تلك المحاكمة التي تحولت إلى سيرك إعلامي فيما تجمع المنبوذون المعدمون خارج المحكمة دعماً لرمزهم الباسم.

يأخذنا الفيلم في رحلة عبثية فوضوية داخل عقل آرثر المختل نستكشف فيها جنونه ودوافعه وتلك الظلامية التي كونت شخصيته رحلة تعكس بوضوح رغبة آرثر الشديدة في إيجاد الحب في أن يجد شخصا يفهمه فيما يعاني من هيمنة الجوكر على شخصيته.

العبثية وصف ملائم للفيلم الذي افتقد بشكل غريب للعمق العاطفي إنه مجموعة متداخلة من الهلوسات والأغاني المدسوسة بشكل لا يلائم عالم الجوكر الظلامي قطعاً، فقد كانت الأحداث مشتتة منقسمة بين مكانين المصحة الكئيبة الكالحة والمحكمة حيث يحاكم الجوكر على جرائمه الشنيعة، أجواء الفيلم كئيبة غريبة متداخلة فعقل آرثر يتولى إرشادنا عبر تقديم تفسيرات خاصة به لما يجري أمامنا تفسيرات تتخذ شكل أغنية ثنائية بين الجوكر وهارلي كوين التي أصبحت رفيقة الدرب، تلك الأغاني التي كانت كفيلة بزعزعة الأحداث بشكل مزعج للغاية خاصة حين تتقافز الأحداث بين الواقع والوهم العقل والجنون بطريقة تجعلك تلهث إرهاقاً وتفقد مسارها حتى.

في أعمال كثيرة سابقة تم تقديم الجوكر كمجرم لا قلب له, رجل مجنون دموي يريد الدمار والموت, عدو مرعب لفارس الظلام، لربما كان الجوكر نسخة ليدجر هي الأقرب إلى الإنسانية فعدسة “كريستوفر نولان” منحت الجوكر أبعاداً فلسفية ونفسية لم نرها من قبل وحولته من شخصية كرتونية إلى بشر من لحم ودم لقد جعل هيث ليدجر من الجوكر شخصية أسطورية يستحيل أن تُنسى.

أما فيليبس فيصر على وضع الجوكر على أريكة الطبيب النفسي, إنه ليس مجرماً كريهاً مخبولاً، إنه ضحية بائسة لمدينة قاسية ومجتمع تفشت فيه الجريمة كالوباء، الأمر الذي أرغمه على الانقسام على نفسه وإخراج ظلمات أعماقه على شكل مهرج لا يعرف سوى الابتسامة، لعل هذا ما أثار سخط عشاق عالم باتمان فجوكر فينيكس كان إنساناً بشدة, خالياً مما يجعل الجوكر ما هو عليه، حتى أننا أحياناً كنا ننسى أن من أمامنا على الشاشة هو الجوكر وجه غوثام القبيح المجرم الشرس. 

بالنسبة للتمثيل فلا غبار على أداء “واكين فينيكس” قطعاً هذا الرجل قادر على تجسيد الجنون بأنواعه، لقد أعاد فينيكس آرثر فليك إلى الحياة مجدداً لكنه افتقد عنصرا هاماً للغاية هذه المرة إنه عنصر المفاجأة، في الجزء الأول كان الأمر صادماً أن نرى الجوكر مريضاً ضعيفاً رجلاً يستحق الشفقة ونرى بتروً تحوله البطيء من رجل مهمش منبوذ إلى رمز إلى الرجل الذي يكشف قبح غوثام، إن الجوكر هو فيلم آرثر لكن آرثر هنا ليس مثيراً للاهتمام على الإطلاق إنه مجرد ظل واه، رغم الجهد الواضح الذي بذله فينيكس في تقديم الشخصية خاصة في التفاصيل الذهنية والجسدية إلا أن آرثر يظهر كأنه فراغ يعكس الآخرون رغباتهم عليه، إنه ظل لمجتمعه انعكاس لأفكار الآخرين عنه، ويبدو أن فينيكس نفسه وجد صعوبة في تحديد ماهية آرثر هل هو مريض بائس أم مجرم ذو كاريزما هائلة أم أنه ضحية أخرى لغوثام مدينة الظلام، ضلال لا ينتهي حتى مع نهاية الفيلم التي يمكن القول بلا خطأ كبير أنها كانت سخيفة

أما “ليدي غاغا” التي نالت حصة الأسد من الاتهامات بكونها السبب الأساسي لفشل الفيلم ففي الواقع لم تكن سيئة إطلاقاً بل قامت بعملها كما يجب وبذلت جهداً واضحاً لمنح “لي” المقدار الملائم من الجنون كما أن مدى صوتها الواسع كان إضافة جيدة إلى الأغاني, خاصة أن واكين فينيكس أثبت أنه عاجز حقاً عن الغناء، لكن ومع كل هذا كان هناك ما ينقص أداء غاغا, إنها تلك الشرارة التي تجعلك متسمراً بشغف أمام الشاشة, كان أداء غاغا مستوفياً الشروط اللازمة لكنه كان وبشكل غريب فارغاً من الحياة إنها هناك لدعم الجوكر لا أكثر مما جعل وجودها بلا معنى حقيقي.

لا أدري حقاً السبب الذي دفع فيليبس لتحويل الفيلم إلى فيلم موسيقي ! نعم كانت الموسيقى التصويرية الخاصة بالجزء الأول ساحرة للغاية لكن تحويل الفيلم بأكمله إلى استعراض طويل كانت فكرة غير موفقة, لعله ظن أن الموسيقى ستغطي على الفراغ العاطفي والثغرة المنطقية التي يرزح تحتها الفيلم، لكن لو كان هذا هو الرهان فقد خسره بلا أي شك, فبدلاً من أن نرى الجوكر يعيث فساداً في أرض لم تعرف يوماً سوى الفساد، أمضينا ساعتين في خيالات موسيقية وتهيؤات نفسية تؤكد ما نعرفه جيداً منذ البداية الجوكر مريض نفسي، لكن هل هذا تبرير كاف لكل أفعاله؟

في الواقع نجح الفيلم في أمرين الأول هو إثارة سخط نقدي وجماهيري واسع المدى والثاني التعمق في واحدة من أعقد وأكثر المشاكل التي تعانيها المجتمعات خطورة .. ثقافة المعجبين السامة.

لقد كان آرثر فليك مجرماً قتل رجلاً أمام الكاميرا فيما يشاهده الملايين، إنه النسخة الأكثر قسوة من سائق التاكسي, مما جعله محط أنظار الإعلام, والذي وجد في فليك مادة دسمة فحوله إلى رمز ثقافي ومعنوي يتخطى المنطق، أثناء أحداث الفيلم نعلم أن فيلماً تلفزيونياً تم تصويره عن فليك الذي تحول بغتة من مجرم مخبول إلى بطل قومي يستحوذ اهتماماً وشعبية غير متوقعين مما يزيد من الأنظار المصبوبة عليه، إنه وحش ينبغي أن ينبذ لكن الإعلام جعل منه رمزاً أسطورياً، وهذا الأمر شهده العالم مرات لا حصر لها, تذكر الإعجاب الكاسح الذي ناله “السفاح تيد بانديخاصة من النساء, وهنا فقط كان الجوكر غارقاً في واقعية مؤسفة.

تبرز “هارلي كوين” هنا باعتبارها المعجب الأكثر تطرفاً, فتذكرنا بالنساء اللواتي يقعن في حب السفاحين المدانين في السجن بجنون, ويرسلن الرسائل لهم باستمرار، “لي” تؤجج نيران جنون آرثر, تشجع أسوأ ما فيه, إنها شيطانه الهامس “فيرجيل” الخاص به, تقوده عبر ظلمات عقله المضطرب, ساحبة إياه إلى عالم من الجنون الممتزج بالموسيقى, مما يجبرك على الشك ! هل “لي” مغرمة بالفعل بآرثر ؟ أم أنها تستغل شعبيته وجنونه فحسب؟ لا يقدم الفيلم إجابة واضحة لهذا السؤال, لكن وفي الوقت نفسه يمكن أن نلاحظ أن آرثر يستعيد شخصية الجوكر كلما توطدت علاقته ب”لي” لقد كانت أحلامهما المشتركة الملجأ الأمثل لذلك الجنون المطلق الذي توج شخصيتهما. 

إذاً لماذا فشل الفيلم؟ السبب الأساسي يعود إلى فيليبس نفسه, يبدو أن المخرج ظن أن نجاح الجزء الأول سيعني بالضرورة نجاح الثاني غير عالم بالنحس السينمائي الذي عادة ما يرافق هذه الأفلام, لم يكن الفيلم مدروساً بعناية, إنه فيلم مُفعم بالأداء التمثيلي الجيد, كما أنه ممتع بصرياً بالقطع, لكن المشكلة كانت في السيناريو نفسه الذي جاء فارغاً من العاطفة والمنطق, إنه غير مثير للاهتمام بشكل غريب, تائه متخبط بقدر بطله، أما الجانب الموسيقي فقد كان ضربة قاصمة لعمل كان بإمكانه أن يغير عالم الفن السابع.


2 صوت - التقييم 5.5

من Sandy Laila

Movie Critic