“لم أعد بحاجة للحديث إلى الله، لقد قلت كل ما أستطيع قوله.”
بهذه الكلمات أنهى المخرج السويدي الأسطوري إنغمار بيرغمان ثلاثيته التي حملت أسماء متعددة: ثلاثية الإيمان، ثلاثية الشك، والاسم الأكثر شهرة، ثلاثية صمت الإله
كابن لقسّ لوثري متشدد، عانى بيرغمان من قمع ديني دائم وصمت صارم أمام أسئلة وجودية حيرت عقله لأعوام. كانت طفولته مفعمة بالتعاليم الصارمة، بالخوف من الجحيم، غارقة في شعور الذنب.
في مذكراته “الصور”، كتب عن والده الذي شكل تشدده اللبنة الأولى في صراعه مع هوية الإله، ذاك الإله الذي تخيله كأب غاضب وصامت، حيث كتب بيرغمان:
“في طفولتي، لم يكن الله موجودًا لأجلي .. بل كان شخصًا ينظر إليّ بغضب من الأعلى”
جاءت الثلاثية كتجلٍّ واضح لهذا الصراع، كإجابة لطالما تاق إليها بيرغمان، وكأنها شكلٌ من أشكال التطهير الوجودي، لم تكن الثلاثية مجرد عمل سينمائي فريد من نوعه، بل كانت مجموعة من الأسئلة الوجودية الملحّة، ورحلة داخلية خاضها بيرغمان بشجاعة، ورغب أن نصاحبه فيها.
كانت حكاية عن الضياع، عن الخذلان، عن الفراغ، عن الصمت، الروحي واللغوي على حدّ سواء.
عبر أفلامه الثلاثة التي حملت عناوين موحية Through a Glass Darkly و Winter Light و The Silence أخذنا بيرغمان في رحلة ملحمية مزجت بين الشك واليقين، بين الماضي والحاضر، بين الوجود والعدم.
ستة عقود مرت منذ ظهرت الثلاثية إلى الوجود، ولا تزال صامدة في وجه الزمن، تتحدانا أن نكشف خفاياها وأسرارها، أن نغوص في رموزها وتجلّياتها، وهو ما سنحاول فعله في هذه المراجعة.
عندما أراد بيرغمان البحث عن الإله
لا يوجد ترتيب محدد ينبغي على المشاهد اتباعه لمشاهدة الثلاثية، فبيرغمان صنع تحفته كي تكون شبيهة بالحياة، دائرة لا نهائية تبدؤها من حيث ما تشاء. يربط خيط رفيع بين الأفلام الثلاثة، خيط تستكشف وجوده رويدًا رويدًا، خيط يحمل سؤالًا واحدًا يتردد في كل مشهد.
من خلال زجاج الجنون

يفضل أغلب المشاهدين رؤية الثلاثية وفق ترتيبها الزمني، أي أنهم ينظرون إلى تحفة بيرغمان “من خلال زجاج مظلم” الفيلم الأول الذي أخرجه عام 1961.
كعادة بيرغمان، كان أبطال الفيلم معدودين للغاية، عائلة صغيرة تجتمع في جزيرة معزولة لقضاء الإجازة، كارين، الابنة المصابة بمرض نفسي لم يُذكر نوعه بوضوح، وديفيد والدها الروائي البارد، ومارتن، زوجها الطبيب، إضافة إلى مينوس، شقيقها المراهق.
مع تقدم أحداث الفيلم تبدأ كارين بالانهيار، تعاني من الهلوسات، تعتنق إيمانًا لا يتزحزح بأن الله سيظهر من أجلها، تنتظر بيأس إشارة، كلمة، صوت من الأعلى يطمئنها أن كل شيء سيكون على ما يرام. فيتجلى الإله لكارين أخيرًا كعنكبوت مرعب، في واحد من أكثر المشاهد شهرة وأيقونية. لا يظهر الله لكارين كأب حنون أو صوت مطمئن يهمس في الظلمات، بل يظهر ككائن مرعب مفترس، في تجلٍ واضح لرؤية بيرغمان الشخصية للرب.
“الحب هو ما نسميه الله” اختتم بيرغمان فيلمه المرعب بهذه الجملة التي وردت على لسان ديفيد الأب الغائب الصامت، كنوع من التصالح الإنساني بين بيرغمان وفكرة الإله.
عندما يفقد صاحب الإيمان إيمانه

ولو كان Through a Glass Darkly صرخة تائه يبحث عن الإله، فإن Winter Light كان كاسمه، باردًا صقيعيًا، لعله أشد أفلام بيرغمان قسوة وكآبة، هل هناك ما هو أقسى من أن يفقد رجل الإيمان إيمانه؟
تدور أحداث الفيلم خلال ساعات معدودة في يوم شتوي قاتم، في قرية سويدية صغيرة. يؤدي القس توماس قداسًا في كنيسة شبه فارغة، إنه مرهق، متعب، سئم من طقوس فقدت كل معانيها بالنسبة إليه. وعندما يلجأ رجل بائس خائف هو يوناس إليه طلبًا للطمأنينة، يجد أمامه صمتًا روحيًا وفراغًا إيمانيًا. لأن القس فقد إيمانه بالرب الذي أخذ منه زوجته، وأصبح الإيمان بالنسبة لتوماس عادة ثقيلة مرهقة، إنه رجل يرتدي الدين كعباءة خارجية، لكن قلبه يخلو منه.
لم يهاجم بيرغمان الإيمان مباشرة في ضوء الشتاء، بل استعرض بذكاء غيابه، خواءه، ذلك الفراغ الذي يخلقه الغياب.
توماس لم يكن مجرد رجل دين فقد إيمانه، بل كان الابن الضال الذي يصرخ في الفراغ بلا أي رد. فأثناء الحوار بينه وبين يوناس، المشهد الذي يعتبر من أروع ما قدمه بيرغمان في مسيرته، لا نسمع صوت الإله، فقط صدى الشكوك، صدى الضعف البشري، الأمر الذي يكرس اسم الفيلم، ضوء الشتاء، ذلك الضوء الرمادي الكئيب الذي لا يبعث أي دفء، إنما يفضح هشاشتنا.
لم ينس بيرغمان إضافة عنصر نسائي أمومي يذكرنا أن هناك بصيصًا من الأمل، فكانت مارتا هناك، امرأة تفعمها المشاعر، تؤمن بالحب، بالحياة، بالبشر. يرفضها توماس بقسوة لأنه عاجز عن قبول الحب، عاجز كبيرغمان عن إيجاد الطمأنينة اللانهائية التي يخلقها وجود الحب.
يُعتبر ضوء الشتاء أكثر أفلام الثلاثية تجردًا وبساطة، ولعله أشدهم وضوحًا، لكنه الأكثر قسوة. لربما يخلو من الصراخ والرؤى والهلاوس، لكنه بارد صقيعي، يتسلل كالبرد إلى داخل قلبك، كي يبعث ظلال الشك في روحك، كي يجعلك تتساءل، تشك، تقاتل كي تجد السلام والطمأنينة، ولربما تستسلم لاحقًا كما فعل القس توماس في النهاية.
في النهاية.. جاء الصمت

أما الصمت فكان ختام الحكاية، يمكن اعتبار فيلم The Silence إعلانًا صريحًا عن أن الصمت هو كل ما سنناله، صمت اللغة، صمت الرحمة، وصمت الإله.
يبتعد بيرغمان في الصمت عن المقدسات، لا ذِكر لله، لا صلوات، ولا محاولات للبحث عنه. كل ما نراه هنا هو مدينة مجهولة تنطق لغة غير مفهومة، مجتمع خانق، وحوار شحيح تتصاعد فيه التوترات بين أستير، الأخت المريضة المثقفة، وآنا الأخت ذات النزعة الجسدية إضافة إلى الطفل يوهان، المراقب الصامت.
منذ المشهد الأول، يتجلى الصمت كبطل أساسي، الأختان عاجزتان عن التواصل، تتحدثان بتوتر متصاعد، المدينة تتكلم بلغة غير مفهومة، اللغة هنا كانت وسيلة لعزل المعنى لا لنقله.
في هذا الفيلم لم يكن الصمت هدوءًا، بل كان عبئًا خانقًا، غياب الرب لا يُعبّر عنه بالصراخ ولا بالدموع، بل باللاشيء، بالصمت المطبق. لعله أكثر أفلام الثلاثية سوداوية وفجاجة، إنه صورة لا تنطق لخفايا روح بيرغمان، للصمت الذي عانى منه أعوامًا.
لم يصرخ بيرغمان في النهاية، إنما صمت متسائلًا، أين الإله؟ هل هو وحش مفترس؟ هل هو طقس ديني فارغ من المعنى؟ أم أنه لم يوجد من الأساس إلا في خيالنا؟
إذًا.. ما الذي أراد بيرغمان قوله؟

يصعب حقًا أن تجد إجابة وافية لهذا السؤال، فبيرغمان لم يترك خلفه توضيحات واضحة محددة عما قصده في ثلاثيته، تاركًا إياها ماثلة أمام الزمن تتحدى المشاهد بألغازها، برموزها، بصورها.
لم تكن الثلاثية مجرد سلسلة أفلام أخرى، بل كانت صرخة نابعة من قلب مثقل بالأسئلة، تجلّيًا لصراع نفسي عاشه بيرغمان لأعوام طويلة، فلم يجد أمامه سبيلًا سوى السينما كي يفرغ ما بداخله بأسمى طريقة ابتكرها البشر: السينما.
من الجنون، إلى الشك، إلى اليقين، سحبنا بيرغمان معه في رحلة فلسفية نفسية، غاصت بنا إلى أعماق روحه المثقلة، تاركة لنا مزيدًا من الأسئلة المقفلة بالصمت المطبق. لم يطرح بيرغمان إجابات شافية، وما كان ليفعل حتى لو امتلكها، بل فضل ترك ثلاثيته لغزًا يفسَّر حسب من يراها، طارحًا تساؤلًا واحدًا:
أين هو الإله؟ أهو عنكبوت ضخم مفترس؟ أم أنه أب صامت لا يرد سؤالًا؟ أم أنه غير موجود من الأساس؟
من كان بيرغمان بالضبط؟ هل كان كارين، وانتظر بيأس إشارة إلى وجود الإله الذي سينقذه من بؤسه؟ أم كان توماس، القس الذي فقد كل إيمان في قلبه لكنه ظل مستمرًا في أداء طقوس لا يؤمن بجدواها؟ لعله كان يوهان، طفلًا تائهًا في ظلال الصمت، باحثًا بلا أمل عن تفسير لتلك اللغة المجهولة التي قد تفسر له حقيقة الرب.
كثيرة هي الأسئلة، ومعدومة هي الأجوبة، لكن هناك حقيقة واحدة مضمونة، ثلاثية صمت الإله لإنغمار بيرغمان كانت تحفة فنية لن تتكرر، تجربة روحية لا تفوت، ومحطة مؤقتة في مسيرة مخرج غير وجه السينما كما نعرفه ذات يوم.
بعد “ثلاثية صمت الإله” صمت بيرغمان بدوره، لم يعد يطرح تلك الأسئلة، ولم يعد كي يغوص في نفس المساحات الوجودية بالحدة نفسها. كأنما قال كل ما أراد، ولربما وصل إلى نقطة لم يعد بعدها الكلام مجديًا، لكن أثره لا يزال باقياً، ليس فقط كعلامة فارقة في تاريخ السينما، بل كفعل تأمل، كصرخة ضد العدم.
هذه الثلاثية لم تكن فقط أفلامًا، بل كانت تجارب وجودية خالصة، حلقات من الحيرة والصلاة والخذلان والانتظار، وربما كانت السينما، بالنسبة لبيرغمان، هي الطريقة الوحيدة للبوح وسط هذا الصمت الثقيل، فالسينما على حد تعبيره هي “حلم، موسيقى، صرخة..السينما هي ضوء يلمس الظلام في داخلنا.”
في ضوء هذا الظلام، وقف بيرغمان يحمل الكاميرا، لا ليعطينا إجابات، بل ليجعلنا نطرح السؤال من جديد، ولكن هذه المرة..بصوتٍ أعمق.

Movie Critic