قالها الأستاذ حسن سامي يوسف ذات مرة بكل ما في روحه الطيبة من فخر: “لن أكتب للتلفزيون يوماً شيئاً لا يشبهنا، حتى لو أصبحت عاطلاً عن العمل”

واليوم رحل عنا وعن التلفزيون الذي أغناه بأعمال تشبهنا، حكى قصصنا وولج إلى عالمنا بقلمه روى حكايات عشناها وأحببناها بكل تفاصيلها، حارب الحياة والظلم والانحدار الثقافي المؤلم رافضاً أن يقترن اسمه بعمل لا يرقى إلى مستوى توقعات كل من أُغرم بأدبه مهملاً من القائمين على الإنتاج والأعمال الفنية.

كانت الكتابة وسيلته المثلى للتحدث إلينا، ليخبرنا أنه منا ويشعر بنا، كثيرة هي أعمال الأستاذ متنوعة متعددة مختلفة، لكن ما جمع بينها كلها كان ذلك الألق الإنساني الذي دائماً ما أحسن حسن سامي يوسف تغليف أعماله به، لا يسعنا هنا ذكر كل الأعمال التي أبدعها الأديب الراحل لكننا سنسلط الضوء على أعمال تلفزيونية لا زالت ورغم كل التغيرات التي طرأت على المجتمع السوري قطعة من قلب كل من شاهدها يوماً 


الانتظار

عام 2006 دخل الأستاذ بذكاء وترو إلى عالم المهمشين، إلى حياة أولئك البسطاء القاطنين في العشوائيات المنتظرين بأمل لا يفنى غداً أفضل، لم يكن الانتظار مسلسلاً آخر عن البسطاء، بل كان مسلسلاً لأجلهم، لأجل أولئك الذين التهمتهم الحياة أحياء، كانت حارات دمشق الشعبية الفقيرة الغارقة في القذارة بطلة الحكاية، حارات يقطنها المنتظرون بكافة أنواعهم وأطيافهم فهناك من ينتظر الحب وهناك من ينتظر الأمل وهناك من يبحث عن خلاصه بغض النظر عن الوسيلة، لا مكان للمرفهين أصحاب السيارات الفاخرة في هذا العالم، كان هذا العمل تصويراً حقيقياً واقعياً لعالم يظن البعض أن تجاهل وجوده يكفي كي يختفي تماماً، سنوات طويلة مرت ولا زلنا نذرف الدموع لأجل عبود اللقيط الذي قست عليه الحياة أكثر مما استحق ورجا الشاب الذي نشأ بين أبوين منقسمين متباعدين ووائل الأب والصحفي الذي ينتظر بصبر ذلك البيت الذي يليق به وبعائلته، كان العمل حكاية عن القدر والحياة عملاً سلط الضوء على عالم مجهول وروى حكايته لأجل كل البؤساء الذين يقبعون ليل نهار في الانتظار غير عالمين إلى متى


الغفران

عاد الأستاذ عام 2011 في الغفران ليحطم قلوبنا بواحدة من أعقد وأكثر قصص الحب حزناً، قصة أمجد وعزة اللذان حلما بعالم مثالي يغمره الحب غير عالمين أن الحياة لا ترحم المحبين إنما تتفنن في تعذيبهم وإذاقتهم الويل وأن الحب لا يكفي لصنع عائلة قوية مستقرة، لم يكن الغفران يوماً قصة عن الحب كما قد يظن أغلب المشاهدين، إنما هو قصة عن الحياة عن قسوتها وعن تلك اللحظات التي ندرك فيها أننا لم نفعل ما يكفي وأن الشوق يؤلم أكثر بأضعاف من الحب، لقد ترك الغفران بصمة لا تمحى في عالم الدراما السورية بدءاً من الشارة الأسطورية التي أغناها المبدع إياد الريماوي انتهاء بالمشهد الأسطوري الذي خلقه تعاون اثنين من أفضل مبدعي الدراما الراحلان الكاتب حسن سامي يوسف والمخرج حاتم علي اللذان نجحا بحق في تقديم قصة حب أسطورية بنهاية ملحمية خارجة من قلب مجتمعنا وحياتنا.


زمن العار

ولا يمكن لنا الحديث عن حسن سامي يوسف دون التطرق إلى زمن العار الذي خرج إلى الشاشة عام 2009 جاعلاً من المطحونين أبطالاً له، لربما يكون زمن العار واحداً من أشد الأعمال السورية جرأة وأكثرها عمقاً، كان عملاً ناقش بشجاعة ذلك المفهوم الغريب الذي يحكم بقبضة من حديد المجتمعات الشرقية مفهوم العار، كانت بثينة بطلة العمل الأولى بثينة البريئة العانس التي أفنت حياتها تخدم أمها المريضة، لم تعرف بثينة العالم الخارجي يوماً، كان عالمها هو المنزل الكالح والغرفة المفعمة بروائح المرض والموت، لم تعش بثينة يوماً كامرأة لذا فقد كان وقوعها في حب جميل الخبيث زوج صديقتها وجارتها صباح والزواج منه سراً مسألة وقت، لم تكن بثينة امرأة كريهة كانت امرأة ترغب في الحب والأطفال والزواج لكنها حرمت حقها هذا ووصمت بالعار فقط لأنها رغبت في أن تكون أنثى، كان عار بثينة وسيلة مثالية لتغطية عار أخوتها وأبيها الذين اقترفوا أفعالاً تفوق في فظاعتها فعلة بثينة لكن المسكينة ككل مسكين آخر تحملت وزر العار الذي أثقل عائلتها بمفردها، كان زمن العار عملاً قاسياً خاض في أعماق مجتمع يدير ظهره للضعفاء، مانحاً الحصانة لأولئك الذين لا يردعهم رادع عن تلبية رغباتهم وطموحاتهم، ففي النهاية لم تكن بثينة صاحبة العار الحقيقية، فالعار كان نسيجاً كثيفاً يلتف بقسوة في أنحاء ذلك البيت الذي أسرها طوال حياته


الندم

وهل يمكن أن ننسى عروة وهناء؟ طبعاً لا لقد كان الندم صدمة حياة للجثة التي تحولت إليها الدراما السورية، صدر المسلسل عام 2016 كبلسم شاف لكل من تاق لعمل يحكي قصصنا وحياتنا ومعاناتنا، المسلسل هو معالجة درامية لواحدة من أكثر روايات الأستاذ شعبية وشهرة عتبة الألم، كان المسلسل مؤلماً قاسياً حقيقياً كان حكاية عن رجل امتلك العالم وفرط فيه، وكان حكاية وطن انقسم على نفسه كأحداث العمل ماض مشرق وحاضر مظلم، كان عروة وهناء بطلي الحكاية الأقرب لقلوبنا كانا شابين مفعمين بالحياة والحب لكن القدر كان له رأي آخر ورحلت هناء تاركة ندبة لا تمحى في قلب عروة الذي لم يغفر لنفسه يوماً كسره لقلبها، لم ينس الأستاذ حسن سامي يوسف سوريا الوطن الذي احتضنه، فكانت عائلة أبو عبدو الغول تمثيلاً دقيقاً للمجتمع في سوريا المجتمع الذي لا يترك للحب والأحلام مساحة تكفي للحياة، ولم ينس للحظة أنه فلسطيني فكتب عن أوجاع اللاجئين الذين يحاربون الحياة بلا وطن عن اللاجئين الذي انتمى إليهم ونشأ بينهم.

كان الندم عملاً خارجاً من قلب حسن سامي يوسف المثقل بالألم، خرج من قلبه ليلج إلى قلوبنا وليصبح جزءاً لا يتجزأ من حياتنا.


اليوم تخطى الأستاذ عتبة الألم وسئم الانتظار وملّ الحياة في زمن العار ولم يعد قادراً على الغفران، رحل حسن سامي يوسف رافضاً الإساءة لتاريخه العريق رافضاً أن يكتب عن عالم مثالي لا وجود له، رحل الأستاذ كما عاش بهدوء وسلام تاركاً لأجلنا إرثاً قيماً يذكرنا أننا غيرنا وجه الدراما العربية يوماً.

وداعاً حسن سامي يوسف لن ننساك يوماً وسنظل دائما نتغنى بالأديب العظيم الذي أمتعنا لأعوام وأعوام بأعمال يستحيل أن تمحى من الذاكرة.

4 صوت - التقييم 7.7

من Sandy Laila

Movie Critic