أرنوفسكي دافنشي السينما

يقسم أغلب نقاد عالم الفن السابع السينما إلى نوعين لا ثالث لهما, سينما تجارية تلك التي تصنع لكسب المال وتحقيق الإيرادات بوجود أبطال وسيمي الطلة, والسينما ” الحقيقية ” تلك التي تخلق سحراً ما بعده سحر وتخترق أقسى القلوب تاركة بصمة يصعب أن تنسى.

رغم أن هذه التقسيمات ليست دقيقة بالكامل وأن بعض الأفلام التي وصمت بالتجارية كانت قطعة سينمائية راقية, إلا أن هناك أفلاماً نجحت بحق في أن تُغير وجه الصناعة وأن تُثير أسئلة لا تنتهي, إن السينما فن والفن ليس درساً تأخذه بأسئلة وأجوبة توضح غرضه, إن الفن بكل أنواعه غامض, مقلق, يتوارى غالباً تحت رمزيات وإيحاءات يخلقها عقل مبدعه. لا وجود للوضوح في الفن, لا تنسى أن الموناليزا وبعد قرون طويلة على رحيل مبدعها لا تزال قادرة على إثارة الفضول, إنها هناك قابعة في أحضان أروقة اللوفر الراقية, تبتسم بغموض ساخر تتحدى بنظراتها ذلك الذي سيحل لغزها, ولعل هذا ما جعلها شهيرة للغاية, فلو أن “ليوناردو دافنشي” ترك رسالة مطولة يشرح فيها بإسهاب سبب ابتسامة فتاته لكانت اللوحة مجرد رسمة حمقاء لفتاة مجهولة, وما كان أحد ليكترث بها, لكن الغموض كان أساس سحرها، كان دافنشي عبقرياً. تلك العبقرية المقلقة التي تبعد مقدار شعرة رفيعة عن الجنون المطلق, كان “دافنشي” فناناً ويبدو أن الفن يحتاج قليلاً من الجنون ليكون فناً حقيقياً.

عند الكلام عن الفن السينمائي المُفعم بالغموض والحيرة فإن تجاهل “دارين أرنوفسكي” سيكون صعباً جداً, إنه واحد من أفضل مخرجي جيله, فنان سيريالي غامض, يعشق إثارة حيرتنا, يجد متعة حقيقية عندما يجد المشاهدين والنقاد محتارين أمام ما أنتجته قريحته.

مع “دارين أرنوفسكي” لا وجود للوضوح. بل الغموض هو اسم اللعبة, أفلامه محملة بكم هائل من الرموز والإيحاء والإسقاط الفلسفي الذي يختلف تفسيره من شخص إلى آخر, رغم أن أفلام “أرنوفسكي” معدودة إلا أن كل واحد منها نجح في خلق حالة غير مسبوقة وبعضها أصبح أيقونة سينمائية فلسفية لن تنسى في أي وقت قريب، كانت انطلاقة “أرنوفسكي” الحقيقية في مطلع الألفية في فيلمه الشهير مرثية حلم Requiem Of A Dream حيث اعتبر الكثيرون هذا الفيلم فيلماً عن الإدمان فقط, لكن هذا الوصف يبخس الكثير من حقه, إن “مرثية حلم” هو كابوس مقلق, حكاية عن أربعة أشخاص هزمهم الواقع ففروا منه عن طريق المخدرات, كان الفيلم مرثية حزينة كاسمه, قطعة فنية من الصور الكالحة لكن الممتعة, انه رحلة مقلقة قاسية لذلك العالم البائس .. عالم المخدرات, لقد فتح “أرنوفسكي” بفيلمه هذا نافذة على عالم مزروع بالأحلام الزائفة, برمزيات خادعة قد يصعب اكتشافها, هذا الفيلم لا يروج لإدمان المخدرات إنما هو فيلم يلج إلى أعماق ذلك الوهم الزائف الذي نعيش فيه دون أن ندري .. وهم الحياة.

كانت مرثية الحلم شديدة الوضوح أمام غموض ينبوع الشباب في فيلم The Fountain الذي نجح في إثارة انقسام لا يزال قائماً حتى يومنا هذا, كان الفيلم غارقاً حتى أصغر تفاصيله في فلسفة الحياة والموت, وحقيقة أنه لم يعرض مرفقاً بمنشور توضيحي لألغازه جعلته أكثر أفلام “أرنوفسكي” إثارة للغضب والجدل, كان الفيلم خيالياً للغاية, منقسماً بين ثلاث قصص يصعب معرفة أيها وهم وأيها حقيقة, إنه حلم طويل وتجسيد للرغبة التي راودت البشر منذ بدء الخليقة.

كان “توماس” أو تومي أو توم باحثاً آخر عن الخلود رجلاً محطماً يرى زوجته تذوي وتموت أمامه فيهرب من واقعه إلى الحلم, ماض ومستقبل وحاضر يتداخل مع الوهم, كان الفيلم مربكاً وغريباً وجرعة زائدة من الرمزية التي نحتاج بالفعل إلى ملصق توضيحي لفهم الفوضى التي أمامنا. ففي الجوهر كانت النافورة قصة حب مأساوية ورغبة إنسانية أزلية في نيل الخلود, لكن لمسات “أرنوفسكي” جعلتها قصة معقدة متعددة الطبقات, تتحدى فهم المشاهد وذكاءه,

أن “أرنوفسكي” يعشق الغموض بكل تأكيد ولا شك أنه استمتع بشدة بكل الشتائم التي انهالت على رأسه عقب عرض الفيلم الذي لا يزال وبعد كل هذه الأعوام عصياً على التفسير, ظل “النافورة” لغزاً محيراً حتى جاء فيلم “الأم” بعد ثلاثة أفلام رائعة لتزيح “النافورة” عن عرشه كأكثر الأفلام غموضاً ورمزية, كان “الأم” فيلماً غريباً مرعباً ومقبضاً, تتعدد الصفات والموصوف واحد, هذا الفيلم ووبساطة غريب للغاية, شخصياته معدودة, وهم فقط رجل وامرأة وضيفان ثقيلان.

إشارة التعجب في اسم الفيلم تُبشر بتعجب واستغراب لن ينتهي حتى بعد نهاية الفيلم, لعله أكثر أفلام “أرنوفسكي” رعباً وغموضاً, في هذا الفيلم لا يلعب “أرنوفسكي” وفق قواعد أفلام الرعب العادية إنما يحطمها بالكامل, مغرقاً المشاهد في أمواج متتالية من الرمزية التي يصعب بحق إيجاد توضيح واحد لها, لقد صنع الفيلم بشكل متعمد لإثارة الانقسام والحيرة, يطرح أسئلة وألغازاً لا جواب لها, سواء أحببته أم كرهته فأن ألغازه ستخترق عقلك وسٌتجهد نفسك محاولاً إيجاد تفسير منطقي لما تراه, وهو بالضبط ما يريده “أرنوفسكي”

ينبغي للسينما أن تكون مثيرة للتفكير والمشاعر, وهذه هي الفلسفة التي يتبناها “دارين أرنوفسكي” بسعادة, فأفلامه مثيرة للجدل, غريبة, غامضة ورمزية, لا يوجد إجابة واضحة في فنه, إنه طفل تائه في أدغال النفس البشرية, يشارك حيرته وأسئلته الفلسفية مع العالم كله.

يقول القدماء أن المسرح نوع من التطهير وأرنوفسكي يرى في السينما مسرحاً مثالياً يفرغ فيه أفكاره المتضاربة الغارقة في الحيرة والتساؤلات, إنه “دافنشي السينما” فنان أحرقت الموهبة عقله, ولم يجد طريقة تريحه سوى الفن فالفن تطهير وهو بحاجته.

قد تحب أفلام “دارين أرنوفسكي” وقد تكرهها لكن لا يمكن إطلاقاً إنكار موهبته الفذة والإضافة القوية التي أوجدها في عالم السينما الذي يحتاج إلى أمثاله, أولئك الحالمين والمفعمين بالقلق, والقادرين على جعل عقولنا مجهدة بالتفكير. لن يخلد “دارين أرنوفسكي” بالطبع لكن “الحوت” “البجعة السوداء” “مرثية حلم” وغيرهم الكثير سيظلوا إلى نهاية الزمن أعمالاً أسطورية لا يوجد تفسير واحد لها كالحياة تماماً.

3 صوت - التقييم 6